علاقة التقوى وسلامة القلب بحسن التصور وجودته

من عظيم ما ينبغي أن ينتبه إليه عند الحديث عن تصور المسائل: علاقة التقوى وسلامة القلب بحسن التصور وجودته، فمن المعلوم أنه من آثار الذنوب والمعاصي سلب العلم والخير والهدى.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض الحديث عن آثار الذنوب: “فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.
ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.
وقال الشافعي إلى وكيع رحمهما الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم فضل وفضل الله لا يؤتاه عاصي”1
وقال كذلك عن الذنوب:” ومن عقوباته: أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية”2.
وعليه فإن الله تعالى بمنته يفتح على الناظر في العلم بتقواه لربه سبحانه، وبعده عن الذنوب والمعاصي، وعن معارضات السوء، فيعينه ذلك على انكشاف الحق والصواب، وجودة التصور للمسائل والدخول إليها من الباب.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “من أحب أن يفتح الله له قلبه أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه، وترك الذنوب واجتناب المعاصي، ويكون له فيها بينه وبين الله خبيئة من عمل، فإنه إذا فعل ذلك فتح الله عليه من العلم ما يشغله عن غيره..”3.
ولأجل ما مرَّ نجد العلماء يدندنون حول تحقيق التقوى والتضرع إلى الله، والقرب منه عند الكلام على المفتي وما ينبغي أن يكون عليه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض ذلك:
“وكلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات وضعف نور كشفه للصواب؛ فإن العلم نور يقذفه الله في القلب4 يفرق به العبد بين الخطأ والصواب..”5.
ومن نفيس الكلام في هذا الباب ما ذكره العلامة محمد المكي بن عزوز المالكي رحمه الله حيث قال: “والحق له نور، وصاحبه مؤيد منصور،..ولا تنال هذه المرتبة إلا بمدد يستنير به القلب من مشكاة الفضل والرحمة. (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وإلى ذلك أشار مالك رحمه الله بقوله: (الحكمة والعلم: نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل).
(وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).
نعم لا بد من السعي والجد في طلب الحق من العلوم تعرضا لنفحات الله امتثالا لحكمته تعالى في ربط المسببات بالأسباب.
فإن المحققين ما نالوا حقائق العلوم إلا بالشوق إليها والنهمة فيها بحرقة تجمع أطراف الفكر إلى ما هو بصدده، وهي حرقة نور لا حرقة نار”6.
فظهرت إذن العلاقة الوثيقة بين جودة التصور للمسائل وتقوى الله تعالى ونور الإيمان واجتناب المعاصي.
ولإيضاح ذلك على وجه الدقة نقول: للمعاصي والذنوب والبعد عن طاعة علام الغيوب من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.
لذلك كانت هي أصل البلاء والشر.
قال ابن القيم رحمه الله: “فكل نقص وبلاء، وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا والذنوب موجبتها”7.
ومن ذلك: ضعف الإدراك وفساد التصور الذي ينتج عنه الحكم الباطل، فإن “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”8.
يقول ابن القيم رحمه الله: “فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الرَّان فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب، ويعميان بصره، قال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)”9.
وحقيقة ذلك “أن المعاصي تفسد العقل، فإن للعقل نورا، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ نوره ضعف ونقص”10.
ومن الصوارف عن الحق لفساد التصور: ضعف عقل الناظر في الحق.
والعقل محله القلب على الصحيح من قولي الفقهاء وهو مذهب الجمهور لقوله تعالى: “فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا”.
وقال عمر رضي الله عنه في حق ابن عباس رضي الله عنهما: “ذالكم فتى الكهول، إن له لسانا سؤولا، وقلبا عقولا” رواه الحاكم في مستدركه.
وعليه ففساد العقل: فساد للقلب والبصيرة.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: “فمتى كان الناظر غير تام العقل كان أعمى البصيرة”11.
ولما كان العقل له تعلق بالدماغ والقلب معا، حيث يكون مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة والقصد في القلب فالمريد لا يكون مريدا إلا بعد تصور المراد، و”التصور محله الدماغ”12.
فلزم من ذلك أنه إذا فسد القلب والعقل بالذنوب والمعاصي، ضعف الإدراك وفسد التصور.
………………………..
1. الجواب الكافي 34.
2. نفسه 52.
3. مناقب الشافعي للبيهقي رحمه الله 2/171.
4. قول العلماء أن العلم نور يقذفه الله في قلب العبد لا يعني ترك التعلم والسعي إلى ذلك، فإن العلم بالتعلم.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: “العلم ليس هو بكثرة الرواية ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الإتباع والفرار من الهوى والابتداع” السير 13/323.
5. إعلام الموقعين 6/98 فما بعدها -تحقيق مشهور-.
6. هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك 52-53.
7. المدارج 1/224.
8. مجموع الفتاوي 6/ 295.
9. الوابل الصيب 56.
10. الجواب الكافي 39.
11. الذريعة إلى مكارم الشريعة 263.
12. مجموع الفتاوي 9/ 304.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *