حمل المغاربة على فتح صدورهم لمالك والأشعري والجنيد -الحلقة الثالثة- الدكتور: محمد وراضي

نقول: إن المغاربة لا يعرفون الجنيد على حقيقته! ثم إنهم ليسوا أبدا على طريقته في التصوف! ومتى صحت هذه الفرضية التي سوف نتولى تدعيمها بالكافي من البراهين. فكيف يدعي كبار القوم عندنا من علماء ووزراء، ومثقفين ومفكرين، وفقهاء، وصوفيين مستقلين، وطرقيين، بأن تبعيتنا لثلاثية المالكية والأشعرية والجنيدية،؛ تبعية موروثة كتركة نحن وحدنا أصحابها الشرعيون؟ 

أو بعبارة أخرى، ثلاثية ضاربة الجذور في المجتمع المغربي، بغض النظر عن التواريخ التي عانقنا فيها كل عنصر من عناصر ما ندعي أنه إرث لنا أبا عن جد؟
فكيف يصح التشبث بالمجهول الذي لم تكن لنا به دراية كافية؟ وبما جرى تحريفه وتقطيع أوصاله عن قصد أو عن غير قصد؟
والمجهول هنا هو فكر الجنيد بن محمد القواريري (ت297هـ). وما جرى تحريفه هنا هو مذهب كل من مالك بن أنس (ت179هـ). وأبي الحسن الأشعري (ت320هـ).
فيفترض أن يكون المذهب المالكي أول مذهب اخترناه وارتضيناه وارتبطنا بصاحبه واعتبرناه لنا قدوة حسنة في ديننا وفي تديننا (= ممارساتنا للدين). غير أننا لم نجانب الصواب ولم يجانبنا ونحن نكرر هذه المسلمة التي نعتقد جازمين بأنه لا يتطرق إليها أدنى شك! يعني بصريح العبارة: أننا لم نكن منذ أزمان، وحتى هذه اللحظات على خطى عالم المدينة الذي نتبجح بكوننا من أتباعه الخلصاء!
لقد أخطأنا أولا في فهم مذهب الرجل! وبالغنا ثانيا في تحريفه إن لم نقل في تشويهه! وإلا كيف أبيح لنا حصره في مجال معرفي واحد هو “الفقه”؟ نقصد العلم بالأحكام الشرعية العملية. بينما نلغي من حسابنا فكره العقائدي والتعبدي والأخلاقي والتربوي والتعليمي والسياسي والاجتماعي؟ فلو كنا فعلا ملتزمين بمذهبه كاملا دون ما بتر وما نحدثه فيه، لاكتفينا برأيه في العقائد، ولاكتفينا بنهجه في الممارسات التعبدية التي تخبرنا عنها سيرته في كتب التاريخ والتراجم، مما يعني منطقيا عدم احتياجنا إلى رأي غيره في العقائد كالأشعري وتلامذته، ما دامت آراء هذا الأخير في النهاية -مع بعض التساهل منا- مجرد انعكاس لآراء أهل السنة والجماعة -ومالك في مقدمة هؤلاء-.
فالأشعري في مناقشته للمعتزلة، يؤكد كيف أن أهل السنة على حق بخصوص صفات الله عز وجل، وكيف أن المعتزلة على خطأ بخصوصها. أي أن أهل السنة حددوا رأيهم في كل ما يتصل بأصول الدين أو بعلم التوحيد حتى قبل ولادة الأشعري بعقود تلو عقود!
وما قيل عن الأشعري وفكره العقدي، يقال عن الجنيد وفكره التعبدي، نقصد تأدية الأقوال والأفعال الدينية إكراما لله عز وجل لغاية نيل مرضاته. أو نقصد -إن شئنا- تقيدا دقيقا وصادقا بشعائر الدين. هذا التقيد الذي يعد أساسا للتقوى والورع، فضلا عن كونه دعامة ضرورية للاستقامة التي طالما كانت مطلبا لكبار الزهاد والمتبتلين.
فهل كنا نحتاج إلى طريقة الجنيد في التصوف. والحال أن المسلك التعبدي لمالك بن أنس مسلك مدعوم بالآي وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. بينما التصوف في مجمله حادث في الملة كما يقول عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الذائعة الصيت. فضلا عن كون الإمام مالك سأل من أخبره بوجود جماعة في خراسان أفرادها يأكلون ويشربون ويقومون ويرقصون ويذكرون الله على هيأة الاجتماع! سأله عما إذا كانوا صبيانا أو مجانين لأن فعلهم الموصوف له لا يصدر عن العقلاء وإنما يصدر عن السفهاء!
ولما تلقى الرد ممن أخبره. ضحك وقال: ما سمعت بهذا في الإسلام! ثم دخل إلى منزله! فقال أصحابه للخراساني يعاتبونه: يا هذا، منذ ثلاثين سنة ونحن نجلس لشيخنا، ولم يحدث أن ضحك قط أمامنا إلا في هذا اليوم! مما يفيد بأن أداء الأذكار جماعة في حلقة مؤلفة من رجال وافقين راقصين متمايلين ولحاهم مسبلة، مسرحية فكاهية هزلية لا يشارك فيها غير الصبيان أو المجانين! إنها في نظر عالم المدينة المتشبث أيما تشبث بمسلك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام البررة في التعبد، مسلك المبتدعين المنحرفين عن سنة سيد الناس بكامل الوضوح!
فالمذهب المالكي إذن أوسع من أن ندعي حصره في الفقه أو في الفروع!
يكفي أن المذهب عبارة عن مجموعة من الآراء والنظريات المرتبطة “بعضها ببعض ارتباطا يجعلها وحدة منسقة”. ثم يكفي أن تكون المعتقدات التي تشكل الجانب النظري في الدين، قاعدة صلبة للجانب التطبيقي منه. إذ كلما تعزز المضي في القيام بكافة أقسام العبادات، من واجبات، ومن سنن، ومن نوافل أو من طاعات، كلما برهن القائمون بها على الإخلاص لله قبل كل شيء، ثم الإخلاص لما يعتقدونه بعيدا عن الرياء والتظاهر، وكلما برهنوا على كونهم صادقين في القصد أو في النية، وفي القول والفعل أو في التطبيق. خاصة وأنه لا خير في علم ليس وراءه عمل، ولا خير في نوايا كاذبة لأنها أس النفاق. والنفاق إظهار لغير ما في السرائر!
فلنقل إذن بأن المغاربة لم يدينوا منذ أزمان بالمذهب المالكي. وإلا ما أعلنوا تمسكهم بالعقيدة الأشعرية، ولا تمسكهم بطريقة الجنيد، ولا دأبوا على قراءة القرآن جماعة، لأن قراءته كذلك مكروهة لدى الأئمة الأربعة، وفي مقدمتهم مالك كراهة تحريم! فضلا عن كون الأداء الجماعي للأذكار، عمل من ليس لهم نصيب من العقل على رأي إمام المغاربة في الفقهيات كما يدَّعون!
فإن كان الأشعري قد عزز بالبراهين العقلية عقائد أهل السنة والجماعة، بعد انفصاله عن خصومهم الألداء، رجال الاعتزال وأصحابه، فإن فعله مشكور مقبول مرحب به من هذه الوجهة، لكنه من وجهة أخرى لم يضف جديدا إلى مفهوم العقيدة كما كانت لدى الأئمة وكبار العلماء والفقهاء الذين نأوا منذ البداية بأنفسهم عن جميع الفرق كالمشبهة والمجسمة وكالخوارج والشيعة والمعتزلة على وجه التحديد. هؤلاء الذين تآمروا مع بعض الخلفاء العباسيين لضرب أهل السنة ضربة لازبة! وفي مقدمتهم المأمون الذي أصدر عام 218هـ مرسوما يقضي بحمل الفقهاء والمحدثين والمؤذنين على القول برأي المعتزلة في التوحيد! وفي مقدمة رأيهم فيه: الإدعاء بأن القرآن مخلوق!
فكان أن تصدى أهل السنة والجماعة للحملة السلطوية المعتزلية المغرضة التي عانى منها كبار رجالها كأحمد بن حنبل وسحنون ومن حدا حدوهما. بينما كان من المفروض أن تتم مقارعة الحجة بالحجة، بعيدا عن اعتماد السلطة الغاشمة لفرض الآراء ونشر المبادئ! تماما كما يحدث في الوقت الراهن في أكثر من بلد إسلامي!
فقد فرض المعتزلة الجدد أنفسهم على الشعوب الإسلامية معززين بالسلطات التي تشاطرهم الاعتقاد بأن لا مكان للنقل في الدولة الوطنية! وإنما السيادة للعقل، وللعقل وحده دون غيره؟ فتمت السخرية ولا تزال بأئمة المساجد وخطبائها، بل وتجاوز المعتزلة العلمانيون حدود السخرية إلى تأليب السلطات على من يصفونهم بالظلاميين ليتم -كما انتهى إلى علمنا- إقالة هذا الإمام وإعفاء آخر وتهديد لآخرين بالفصل هنا وهناك!!!
وماذا عن الجنيد الذي يذهب المغاربة إلى القول بأنهم من أتباعه؟ أو أنهم على طريقته؟ وما هي بالتحديد طريقته المزعومة التي هم عليها حتى الآن؟ تساؤلات في المقبل من هذا المقال سوف نجيب عليها قدر المستطاع. وفي حدود ما يتوفر لدينا من دلائل أو من معالم في طريق البحث والتقصي!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *