قد يبدو هذا العنوان مبالغا فيه، لكن مضمونه -للأسف- واقع ما له من دافع، يُبرز مدى جرأة العلمانيين على شريعة المغاربة المقدسة:
قال محمد الساسي في العدد (697) من جريدة المساء:
“في المرحلة (أ): كان الرجال يتزوجون النساء بالقدر الذي يشتهون، ويضربون نساءهم دون حسيب أو رقيب، ويسترقون بشرا مثلهم كما شاؤوا ما داموا يتوفرون على وسائل ذلك، ولم تكن المرأة ترث.
في المرحلة (ب): جاء النص القرآني ليقنن عدد الزوجات ويحدده في أربع، وليضع سلسلة من الخطوات التي تسبق ضرب الزوجة إمعانا في استبعاده إلى أقصى درجة، ووضع وسائل محفزة لتحرير الرقاب، وأقر نصاب الإرث للأنثى في حدود نصف ما يجب للذكر. ولم يكن من الممكن أي يصدم القرآن الكريم النفوس ولا أن يقلب المعايير جذريا ولا أن يقر أحكاما لن يسايرها أحد، فراعى الظرف التاريخي.
في المرحلة (ج): متى تغير الظرف، جاز أن نتقدم خطوة على خط السير الذي سطره النص، فنعمد بعد روية وتفكير وتحديد حاسم للمصلحة على قاعدة: (حيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله)، إلى منع التعدد، .. ومساواة المرأة مع الرجل في الإرث ..” إلـخ.!!
هذا ما تفتقت عنه عبقرية المجتهد الساسي بمناسبة تخليد الذكرى الستين لحقوق الإنسان.
وليقارن العاقل بين هذا الاحتفاء الكبير بشريعة الأمم المتحدة، الذي حمل الساسي على إعمال نظرية (تاريخية النصوص الدينية) تمهيدا لتكريس (عالمية المواثيق الأممية)، وبين التضايق من شعيرة عيد الأضحى الذي جعله يطالب باستصدار فتوى رسمية تقرر ذبح الأضحيات مرة في ثلاث سنوات! نظرا لعدد الحوادث التي تقع بسبب الاحتفال بعيد الأضحى!!
وهو ما لم يقل مثله في الاحتفالات التي تقام في رأس السنة الميلادية!
إن ما تقدم من السوءة الفكرية في كلام الساسي يجعلنا نوقن بأن العلمانية في المغرب لا تكتفي بعرض فكرها في إطار تلاقح حواري يتمخض عنه ظهور الصواب من الخطأ في موجة السجال الفكري الذي تشهده الساحة الوطنية، بل انتقلت إلى مهاجمة أحكام الشريعة الإسلامية الخالدة والدعوة إلى نسخها بالكلية من مجتمعنا!!
وقد جعل الساسي دعوته نتيجة باطلة لمقدمة أشد بطلانا، وهي وصفه لمواثيق الأمم المتحدة بأنها: (دين الفكرة العالمية لأنه استوعب الديانات الأخرى، واعترف بكتبها ورسلها واعتبر نفسه امتدادا لها، وتفاعل مع معطياتها، وشكّل تركيبا جيدا لإشراقاتها)!
وقال: (بإمكان جميع الأديان والهويات أن تجد مكانا لها في الظلال الوارفة للمرجعية الكونية لحقوق الإنسان وأن تتجاوب معها..)!
وليت شعري، كيف نوفق بين هذا الكلام وبين ما دعت إليه مواثيق الأمم المتحدة -صراحة- من نبذ الدين مطلقا:
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان -مثلاً- ينص في مادته الثانية على أن “لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان دون أي تمييز من أي نوع -لا سيما التمييز بسبب الجنس أو الدين-“.
وقد علم بالضرورة أن الإنسانية التي تدعو إليها الأمم المتحدة؛ تقوم على عدم الاعتراف بالأديان والعقائد؛ فالمذهب الإنساني العالمي يسعى لجمع الناس على إنسانيتهم، ونبذ كل الأديان والشرائع -سماوية كانت أو وضعية-.
وكيف نصدق ذلك الكلام اللامنطقي ونحن نعلم الاصطدام القوي بين مقاصد الشريعة ومقاصد هيئة الأمم المتحدة؛ ولنأخذ مثالا: نظرتها للسلوك الجنسي للإنسان:
ومن آخر التقارير المطروحة في ذلك ما أعده خبراء تابعون للأمم المتحدة، حول وضع الطفلة التي هي دون الثامنة عشر، ويحتوي التقرير على حقها في الحرية الجنسية بعيداً عن أي توجيهات أسرية أو مجتمعية! وحقها في الجنس خارج إطار الزواج! وكذا التوصية بمنع الزواج المبكر! وشدّد على ضرورة سن قوانين صارمة ضد من يخالف ذلك!!..
والأعجب أن التقرير أوصى بما أسماه حقوق الفتيات السحاقيات والشاذات جنسياً، وحق تحديد الهوية الجنسية للفتيات؛ بمعنى حرية اختيار الشريك من نفس الجنس أو من الجنس الآخر، وزعم أن الدين -خاصة في الدول التي يعتبر فيها أساس التشريع- يُقَيّد ويحد من فرص المساواة، ويزيد من حدة العنف، وطالب ببذل الجهود لتغيير المعتقدات والأعراف!! وأن التركيز على عذرية الفتاة وخصوبتها تمثل شكلاً من أشكال التمييز ضد الأنثى!!” اهـ
وبهذا يتضح لنا أن مشروع ثقافة حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، يقوم بالأساس على أصلين عامين:
1- الإلحاد أو العلمانية: (نبذ الدين وإنكار حق الله في التشريع).
2- الإباحية: (وأخطرها: الإباحية الجنسية).
ومعلوم أن ما في تلك الثقافة من خير، فهو مقرر في الشريعة سلفا مع تجردها من عناصر الشر، مما يجعلها في غنية عنه، في الحين الذي لا يمكن أن يكون هو في غنى عنها..
وبعد هذا أتساءل: كيف يرفع الفكر العلماني هيئة الأمم ومذهبها في حقوق الإنسان إلى تلك الدرجة (الكونية)؛ وهي قائمة -في الأصل- على توجه استبدادي يفرض رؤيته على الناس، ويحارب الشعوب التي لا تستجيب لتلك الرؤية اقتصاديا وسياسيا، بل وعسكريا!
وأشد الأمم تضررا منه: الأمة الإسلامية؛ التي مزق وحدتها، ونهب خيراتها، وزرع في جسدها فيروسا فتاكا يتعاهده بالصيانة، ويحفظ وجوده بكل قوة واستماتة، ويمثل غطاء سياسيا لجرائمه البشعة..
وإن تعجب بعد هذا، فاعجب من علمانيين يغترون بيهودي يحرق جواز سفره، أو جمعيات أوروبية تندد وتستنكر، أو تصريحات حربائية لرئيس مجلس الأمن، أو تحركات مسرحية للرئيس الفرنسي، ويجعلون ذلك دليلا على نزاهة هيئة الأمم ورفضها لما تقوم به الدولة العبرية!!
.. ولعل من نافلة القول أن أشير هنا إلى بطلان مسلك: هدم (حكم النص) بما يسمى (روح النص) أو (مسار النص)؛ كما يفعل الساسي وغيره حين يبطلون وينسخون أحكاما ثابتة بالنصوص بما يزعمون ويدعون أنه روح ومقصد تلك النصوص! وهو ما يشكل تلاعبا وعبثا بنصوص الشريعة التي أحيطت بعلوم لا يتكلم في النص إلا من أحكم زمامها، واعتلى صهوة جوادها، ومن مسلماتها: ما أجمعت عليه الأمة من أنه (لا يَنسخُ حكما ثبت بنص إلا نصٌ آخر)، ولا تعرف أصولُ الفقه شيئا اسمه: النسخ بالمصلحة.
وقول العلماء: (حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله)، المراد بها: المصلحة المرسلة التي تشهد لها كليات الشريعة ولا تصطدم بحكم شرعي، وتحديد ذلك منوط بالعالم المتأهل، ثم إنها قاعدة فقهية وليست دليلا ملزما:
قال ابن نجيم: (إنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد والضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية).
أيها القارئ الكريم: إن المرء ليحار حقا حين يرى كيف يسلم العلماني زمام فكره لعدوه الظاهر العداوة، بل يجعل قلمه المتعالم قنطرة مذللة لآليات العولمة الماسخة للشخصية، الطامسة للهوية، الممكِّنة للهيمنة الاستعبادية؟
فكيف تصح الثقة بشريعة قوم مكّنوا لمن يقتل ويذبح وينتهك كل حقوق الناس المستضعفين، سيما المسلمين؟؟
وها هي ذي غزة تعيش الحصار والدمار بعد المجزرة الصهيونية التي دام التقتيل فيها أكثر من عشرين يوما، تابعت خلالها أمم الهيئة مشاهد تناثر أشلاء الأطفال والنساء على مرأى ومسمع كل العالم، دون أن تتحرك لإيقاف آلة الحرب الصهيونية الهمجية مع قدرتها الكاملة على ذلك.
فأين تلك الوعود بالإعمار التي هرولت بإعطائها الدول المساندة دوما للصهاينة؟
لقد تلاشت وحل محلها الترتيب لقرار أممي ينص على إرسال قوات أممية لحراسة الخط الساحلي لغزة من أجل منع أي تهريب للسلاح، تقدمت به كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا حماية منها للجزار وإمعانا في إحكام الحصار على ضحايا غزة.
ولن يعدم الغرب تأويلا باطلا يسوغ به موقفه المخزي الخبيث، ويضحك به على عقول العلمانيين الذين جعلوا دعوتهم منبرا يعتليه المتآمرون على مجد الأمة وسؤددها، الساعون للزج بها في أوحال التبعية، بل العبودية لقوى القهر والهيمنة..