كي يظل قلبك حيا

القلب هو جوهر الحياة في الإنسان.. فبحسب حياته.. وسلامته ونقائه.. تكون حياة الإنسان وسلامته ونقاؤه.. وهذه الحقيقة كما تدل عليها الشواهد الشرعية تقررها النظريات العلمية في سائر الملل عبر التاريخ.
ومن هنا فإن المسلم الحكيم هو من يفتش عن أسباب صلاح قلبه، وأسباب قوته وعافيته؛ لأنه يدرك أنه متى أمتلك قلبًا سليمًا من الآفات.. فقد امتلك الحياة.. وامتلك نقاءها وجمالها..
وهذا رسول الله عليه الصلاة والسلام بيّن أنّ السلامة والصلاح في الإنسان مرتبطة بصلاح قلبه فيقول: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” صحيح.
إن قلبك -عبد الله- هو مفتاح السعادة والغنى.. ووعاء السلامة والهدى.. ومصدر القوة والرضى.. ولحرصك على صفائه ونقائه.. أهم بكثير من حرصك على الهواء والطعام.. فكيف تجعل قلبك سليمًا نابضًا بالإيمان والحياة؟

أولاً: كن صاحب عقيدة
فتوحيد الله جلّ وعلا نور يملأ القلوب.. ويبصِّرها ويقويها.. فهو مادة حياته.. وأساس قوته وسلامته.. ولا حياة للقلب إلا بالإيمان بالله جلّ وعلا.. ذلك الإيمان الذي يصنع الطمأنينة في القلوب.. والسكينة في النفوس.. لأنه يولِّد فيها من التوكل على الله ما تهون أمامها الصِّعاب.. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.. ويولِّد فيها من الثقة بالله، واليقين به ما تزول به الهموم والغموم والأحزان.. ويولِّد فيها من البصيرة والهدى ما يجعلها أكثر ثباتًا، وقدرة على مواجهة الصِّعاب كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فالإيمان بالله جلّ وعلا نور يسري في قلب المؤمن.. يضيء له الطريق.. ويمكنه من الثبات عليه.. فيرى به الأشياء على حقيقتها: القبيح قبيحًا.. والحسن حسنًا.
واعلم أن السعادة والحياة الطيبة في الحياة لا تقوم إلا على أساس واحد هو: الهدى. كما قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.
فمحل الهدى هو القلب.. وهذا المحل لا يمكنه حمل الهدى إلا إذا كان فيه من الإيمان واليقين ما يؤهله لذلك.. ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.
ومن هنا فإن تحقيق الهداية مشروط بتحقيق العقيدة الصحيحة، والإيمان النقي من شوائب الشرك بالله، وعلى قدر معرفة المؤمن بربّه.. ويقينه به.. تكون بصيرته وخشيته وهدايته كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.
وإذا تأملت في تأثر القلوب بذكر الله.. ووجلها من الله.. وجدت ذلك التأثر لا يحصل إلا للقلوب المؤمنة.. كما قال تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، فعطف سبحانه في هذه الآية اطمئنان القلوب بالذكر على الإيمان.. وهو ما يدل على أن قلب المؤمن أعقل حين سماع ذكر الله؛ للمعاني التي يتضمنها الذكر.. وهو ما يجعله متأثرًا به.. وأبصر بالآيات والحقائق الغيبية.
لذلك، إذا ذكر الله.. أبصر عيبه وأبصر عظمة الله.. وأبصر قدرته ورحمته وصفاته العليا.. وأبصر تقصيره.. وضعفه فأورثته بصيرة قلبه ذلك التأثر الحاصل حين سماع ذكر الله.. بعكس ضعيف الإيمان الذي مات إحساس قلبه.. فلا يسمع ولا يعقل كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وكما قال تعالى: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، وكما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
فقلب المؤمن.. قلب عاقل.. لا تخدعه مظاهر الأشياء لأنه لا يرى بعينه فقط.. وإنما بقلبه أيضًا.. قال عليه الصلاة والسلام : “إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة” صحيح الأدب المفرد.

ثانيًا: فرِِّّغ قلبك من الشواغل والأخلاط
الإيمان بالله جلّ وعلا، والتوكل عليه، واليقين به كل ذلك يولِّد في القلب قوة وبصيرة وعقلاً يزن بها الأمور.. ويحقق بها الهدى ليعيش آمنًا من شرور الغي وطرق الردى.
لكن سنة الله اقتضت أن يظل المؤمن في تنازع، ومكابدة ليظل قلبه ثابتًا على الإيمان والتقوى.. لكن المؤمن مهما كانت قوة إيمانه؛ فلابد له من غفوة وضعف.. فإنما سمي القلب قلبا لشدة تقلبه.. وعدم ثباته على حاله..
وهذا التقليب الذي هو أخص صفات القلب، هو منشأ كون الإنسان موصوفًا بالظلم والغدر والخطأ؛ فإنه متقلب في أحواله.. متغير في صفاته.. تغلبه الشهوة.. كما تلتبس عليه الأمور بالشبهة.. ويطغى عليه النسيان كما يتمادى به الهوى والطغيان.. وتغره المتاع.. كما تقهره الطباع.. فهو لسبب أو لآخر متقلب في طبعه.
وعليه فالواجب تطهير القلوب بالتوبة والاستغفار فإن هذا التقلب في الإنسان، ما خلقه الله جل وعلا إلا ليبتليه بخطئه كما يبتليه بصوابه، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم” رواه مسلم.
كما يجب تطهير القلب من الأمراض: فإن طهارة القلب من أمراضه.. وخلوّه من أعراضها.. هو أعظم أسباب قوته ورقته وخشوعه.. وصاحبه هو خير الناس وأحبهم إلى الله.. كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “خير الناس ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد. قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن” صحيح الجامع.
ولا تغفل فيما نحن بصدده من إغناء قلبك بالقناعة: فإن الحرص يسبب الفقر للقلب، ويحدث فيه فاقة لا يسدّها شيء أبدًا.. أما القناعة والرضى بما كتبه الله من الرزق.. فيوجب للقلب الغنى.. ويولِّد فيه الطمأنينة والسكينة.. وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لأبي ذر رضي الله عنه: “يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب” صحيح الترغيب والترهيب.
وفي الختام: اعلم أن العناية بمقويات القلب وأسباب عافيته أكثر من أن تحصر.. ولكن عليك بكثرة ذكر الله بعد أداء فرائضه؛ فإنه أعظم عون لك على طهارة قلبك.. فإنك إن داومت على ذكر الله تسبيحًا، واستغفارًا وتهليلاً وتكبيرًا وجدت أثر ذلك واضحًا على قلبك، فإن زدت حرصًا على الصيام واجتنبت كثرة النوم والأكل والضحك والكلام.. نلت عافية قلبك والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *