تبصير التائب بشبهات الدكتور أحمد الخياطي حول القراءة الجماعية للقرآن وطريقة ” الحزب الراتب” 3/4 أبو عبد الرحمن ذو الفقار بلعويدي

إبطال احتجاج الدكتور الخياطي بما عليه عمل الناس

استحسن الدكتور الخياطي “القراءة الجماعية للقرآن” بدعوى أنها مما جرى عليه عمل الناس، وتضافر عليه أهل الأمصار ببلدان المغرب العربي، وعُرْف حظي بتأييد العلماء، وذلك بقوله: “وأرى أن القراءة الجماعية، ونظام “الحزب الراتب” ببلدان المغرب العربي والأندلس عمل مستحسن وعرف ترسخ منذ قرون خلت، بتأييد أهل الحل والعقد من كبار العلماء..”(1)، واستشهد لاستحسانه هذا بنقول بعض أهل العلم، وذلك كقول صاحب المعيار:ٍ “أن ما جرى عليه عمل الناس ينبغي أن يلتمس له مخرج شرعي ما أمكن”(2).
والدكتور كعادته يسوق استدلالاته من غير مقدمات مساق المسلمات، وكأنه يكتب لنفسه، وهذا ليس منهجا علميا لمن يريد تحرير الأحكام فقهيا، خاصة إذا علمنا أن العبادات هي حق لله عز وجل وخاصة به، ولا يمكن معرفتها إلا من جهته جل جلاله، أو من جهة المبلغ عنه عليه الصلاة والسلام، فالشرع لا يخضع لما يجري عليه عمل الناس وأعرافهم واستحساناتهم، وجعل عمل أهل بلد ما قاعدة لاستخراج الحكم الشرعي بدعة سيئة، فلا اعتبار إلا بما استحسنه الشرع وإن استقبحه الناس، وما استقبحه الشرع فهو القبيح وإن استحسنه الناس. فالتحسين والتقبيح في العبادات أمر مختص بالشرع، ولا دخل للعقل ولا العرف ولا العادة فيه. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة”(3).
فالإسلام -يا دكتور- هو الذي أنشأ المسلمين، وما يفعله المسلمون أو ما يجري عليه عمل المسلمين لا يكون إسلاما إلا إذا كان موافقا لما جاء به الإسلام. فهو ليس دينا جمهوريا أو شعوبيا. وما عليه الناس، أو ما كانت عليه الأغلبية لا عبرة له في تقرير الأحكام الشرعية. لأن العمل بما عليه الناس -بهذا الإطلاق- يقتضي مشروعية البدع إن عمت، واستباحة المعاصي إن شاعت وذاعت.
ذكر أبو العباس أحمد بن يحيى؛ قال: حدثني محمد بن عبيد بن ميمون: حدثني عبد الله بن إسحاق الجعفري؛ قال : كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يوما السنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونون هم الحكام، فهم الحجة على السنة؟! فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء)(4). فلا حجة في عمل أهل بلد -أي بلد-، وإنما الحجة في النص، والإجماع، أو دليل يستنبط منهما، ولا يلتفت فيها إلى كثرة؛ “قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث” (5).

تحرير المراد من لفظ “الناس” في اصطلاح مالك
سئل الإمام الشاطبي عن قراءة الحزب بالجمع، فأجاب بقوله: “إن مالكا سئل عن ذلك فكرهه، وقال: هذا لم يكن من عمل الناس”(6). وهذا يفيد أن الإمام مالك بنى حكم عدم مشروعية القراءة بهيأة الجمع على نفس القاعدة التي بنى عليها الدكتور مشروعية القراءة الجماعية. وهذا الأمر هو في منتهى الغرابة، لامتناع استخلاص حكم المشروعية وعدم المشروعية لمسألة واحدة بناء على قاعدة واحدة.
وهذا إن كان يدل على شيء، فهو إما يدل على أن قاعدة “ما جرى عليه عمل الناس” غير منضبطة، أو يدل على سوء استعمال الدكتور للقاعدة لعدم الدراسة الكافية لمضامينها.
فلفظ “الناس” مثلا في اصطلاح مالك ليس المراد به عنده أهل المغرب والأندلس كما هو في استعمال الدكتور. وإنما المراد به عنده هم الصحابة وأئمة التابعين من أهل المدينة. ولا أدل على هذا ما نقله الدكتور نفسه في مقاله -من كتاب “جامع العلوم والحكم” لابن رجب الحنبلي- عن مالك في كراهة القراءة بالجمع بقوله: “عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا”.(7).
وهذا على خلاف ما ذهب إليه الدكتور عند استعماله لفظ “الناس”، حيث يتأكد أنه لا علاقة بأي وجه بين مدلول لفظ “الناس” عند مالك، ومدلوله عند الدكتور. وهذا مما لا يترك للدكتور أي متعلق في التَتَرُّس بعمل أهل المدينة الذي بنى عليه الإمام مالك مذهبه، واتخذه قاعدة للترجيح يرجع إليها عند الاجتهاد، وذلك لاعتبارات منها أن المدينة دار الهجرة، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم، وموضع أغلب أصحابه رضوان الله عليهم، وفيها نزلت الأحكام، وقرر الحلال والحرام.
..ولعدم تحقق مثل هذه الاعتبارات في بلدان المغرب العربي وغيرها من الأقطار، يمنع من اعتبار عمل أهل هذه الأمصار قاعدة أصولية يرجع إليها للترجيح عند الاجتهاد. وهذا كله على فرض اعتبار ما جرى عليه عمل أهل المدينة حجة يعتمد عليها -مطلقا- في ترجيح الأحكام. فكيف إذا ما كان الحال هو أن (أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك؛ بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم)؟ (8).
نعم يمكن اعتبار قول جمهور علماء الأمة -وليس قطرا من أقطارها- من المرجحات الفقهية، وذلك إذا ما تعارضت في المسألة الأدلة، وتكافأت مناطاتها، وجُهل أيها أرجح. وهذا -طبعا- في حق من استعصى عليه استخراج الحكم الشرعي عن طريق النظر والاستدلال، أما الأكفاء من أهل العلم والاجتهاد فلا يسعهم إلا اتباع الدليل.
ومن ثَمَّ فقول الدكتور بمشروعية القراءة الجماعية للقرآن، وطريقة “الحزب الراتب” بناء على ما جرى به عمل الناس ببلدان المغرب العربي؛ هو نتيجة فاسدة، مبنية على قاعدة فاسدة، وما بني على فاسد فهو فاسد.
وخلاصة القول: إن القراءة الجماعية للقرآن، وطريقة “الحزب الراتب” بدعة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا فعلها أئمة الفقه؛ كابن أبي ليلى، وربيعة الرأي، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد،.. رحمهم الله جميعا.
أولئكَ أبائي فجئني بمثلهمْ *** إذا جمعتنا يا (فقيه) المجامع(9) *.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”. مجلة المجلس، العدد الأول، ص:68.
2- مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”. مجلة المجلس، العدد الأول، ص:68.
3- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/92.
4- الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص9 لأبي شامة.
5- سورة المائدة، الآية 100.
6- فتاوى الإمام الشاطبي، ص:206.
7- انظر مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”. مجلة المجلس، العدد الأول، ص:64.
8- اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية ص:271.
9- البيت للفرزدق يهجو فيه جريرا، والوضع فيه (يا جرير) بدل (يا فقيه).

* ولا نريد الخوض أكثر من هذا القدر في موضوع الاعتبار بعمل أهل المدينة، خاصة بيان وجه المفارقة بينه وبين عمل غيرها من الأقطار، لأن التفصيل فيه يتسع إلى أكثر من مقال؛ اللهم إلا إذا اضطررنا إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *