تُقلب كتب الفلسفة وعلم الكلام فتفزع من ظاهرة شح الاستدلال بالقرآن والسنة وانعدام توجيهاتهما وتقريراتهما الأساسية في باب الاعتقاد والغيب والإلهيات، اللهم اقتباسات نادرة قليلة تكاد تكون كالوردة اليتيمة في الفلاة السبخة.
إنها للأسف كتب غارقة موغلة في الأقيسة والنقول العقلية والمصطلحات المغلقة والتصورات المركبة ناقلة للمناظرات ذات الجدل والمراء الطويل الذيل البيّن العداوة، إنه موروث يزوره الزائر المشرف على الهلاك فلا يكاد ذهنه يحتفظ من زيارته المتعبة بذكرى يطمئن لها الجنان ويطرد بها الوسنان، ولا يكاد هو يظفر منه بنصر على عدوه الوسواس الخناس.
إنها كتب لم تغن يوما عن محمدة استعراض فصول العقيدة الإسلامية وفق مصادرها الأولى وعلى منوال الأسلوب النبوي المقنع الممتع الذي قامت وتقوم وستقوم به الحجة بمجرد الاستماع له وعدم اللغو فيه، وهو الأسلوب الذي واجه به النبي عروض خصومه، فأرجع به سفارتهم تجر أذيال الخيبة، وتمشي في ذلة الهزيمة النفسية، كما حصل لعتبة بن ربيعة عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتأبط ضغثا من الامتيازات المغرية أو التي خالها وحسبها مغرية، غير أنه وأمام الآيات البينات التي واجه بها النبي عليه الصلاة والسلام مشاريع عرضه الماكر، انقلب على عقبيه يتبعثر في ثوبه قد نسي من هول ما سمع مكانته وهيبته وقام فزعا يمشي لا ينظر خلفه حتى دخل في هذه الحال البئيسة على زعماء قريش…
- إنه أسلوب يستريح إليه العقل الحصيف، ويطمئن به القلب السليم النظيف…
- إنه أسلوب يخاطب الوجدان والجنان، ويستثير العواطف والأفكار…
- إنه أسلوب يوقظ من الغفلة ويكرس اليقظة النفسية كما يوقظ القوى الذهنية…
- إنه أسلوب جاء الكتاب كما جاءت السنة ومعطوفات الأثر لغرض إقامة العبودية لله جل في علاه، ونبذ الشرك والقضاء على ضجيج الخصومات في مقام الإلهيات، ومن ثم ربط المخلوق بخالق الأرض والسماوات…
- إنه أسلوب انتقينا من بحر تراثه العظيم هذا الأثر وتلك الآيتين
فأما الأثر …
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ” لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا”“.
فلا يجب أن يفهم من الأثر أن فيه تسويغا للحلف بالله كذبا وإباحة منه لهذه الموبقة فذلك مما نهى عنه الشرع وغلظ فيه الشارع على مرتكبيه، وشنّع على سيرتهم نافيا عنهم مطلق الإيمان، وإنما فيه بيان ولفتة إلى أن مقارفة الإثم في دائرة السوء هو أخف وأهون من الوقوع في ظلم الشرك وقد قال ربنا جل جلاله: ” إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” النساء48، والأكيد الأكيد أن الكذب وإن ذُمَّ وكبر مقتا فهو داخل في جنس ما دون ذلك المنضوي تحت فضل المشيئة في مقام المغفرة والرحمة الإلهية.
ومن عجيب ما وقفت عليه وسمعته نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذا الأثر بقوله رحمه الله: “وفيه دلالة على أن التوحيد أفضل من الأخلاق”
قلت صدق رفع الله قدره وقدّس سيرته المباركة، وإنّما كان الصدق خلقا وكان الحلف توحيدا، ولذلك تجري كل الأحاديث التي نص فيها وقرر سيد الخلق مكانة الأخلاق وأنّها من أكثر أسباب القرب من الله والدخول إلى جنته ونيل حظوة رضاه والنظر إلى وجهه الكريم، تجري كلها هذه الأحاديث مقيدة بضوابط العقيدة الصحيحة وعرى التوحيد الوثقى، ولذلك اشترط أهل العلم استنباطا واستقراء لنصوص الوحي إعمالا لا إهمال فيه ولا تطفيف أن العمل الصالح في مرجو القبول والثواب يجب أن يدور في فلك الإيمان وقيد وجوده أولا وأخيرا قال الله سبحانه وتعالى: “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا”.
ومنه فهم صدقا وحقا أن الشرع الحنيف لا يقيم للأخلاق ولا للعمل الصالح وزنا إذا كان صاحبه بوديا أو مجوسيا أو مشركا بالله أو كافرا…، فإنّما جزاء إحسانهم هذا إحسان في هذه الدنيا، وأما الآخرة فأعدّها الله لأهل التوحيد والإيمان الصادق والعمل الصالح جعلنا الله وإياكم من المؤمنين الموحدين الذين يعملون الصالحات ثم يبتغون من الله فضلا لا عوضا آمين.
وأما الآية الأولى…
فهي آية تنخلع من وقعها تدبرا وتذكرا القلوب، أوردها الله في سياق الإنكار والتوبيخ والتقريع، وفي مقام تنزيه ذاته ورد عدوان تلك الصفاقة البشرية التي زعمت أنه سبحانه وتعالى اتخذ صاحبة وولدا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإن من هول هذا السوق القرآني المحموم المعنى الفريد المبنى، أنك لا تجد له في كل ما اشتمل عليه القرآن من صيغ زجر أو إنكار أو حد عقوبة ما يضارعه ويماثله في هذا التغليظ والشدة في الإنكار التي واجه بها الله هؤلاء ممن جاءوا بذلك الإد المتناهي في المنكر والفظاعة، والتي من هولها زاد وانضاف عن واجب استنكارها من المكلف الموحد المنزه، قلت انضاف غير المكلف من السماوات التي كادت تتفطر، والأرض التي أوشكت أن تنشق، والجبال التي كادت أن تخر هدّا من ثقل هذه الدعوى الحائفة الزائفة التي لا ينبغي للرحمن أن ينعت أو يتهم بنقيصتها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
إن سياقها الشديد لم يواجه به القرآن فعل المخاني، ولا سلوك المرابي، ولا صنيع القاتل، ولا خيانة الخائن، ولا كبيرة شاهد الزور، ولا…
فعجبا في أسف على من تحت طائلة المغلوبية والانبطاح واستبدال الأدنى بالذي هو خير استعجالا لحظ زائل متوارث شرعن باسم الإنسانية والتسامح لمشاكلة ومجانسة ومؤاخاة وتوحيد للقبلة بين من يتعبد الله ب “قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد…” مع من يتعبده ب “قل هو الله ثالث ثلاثة”.
قال الله سبحانه وتعالى: ” وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا…” سبحانه سبحانه.
وأما الآية الثانية…
فجاءت في سياق قرآني بديع يحاور الله عز وجل من خلاله سائلا ـ وهو أعلم ـ نبيّه ورسوله عيسى عليه السلام قائلا سبحانه: ” وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله“.
فيجيب عليه السلام منزها ربه ومعبوده ومبرئا نفسه وأمّه البتول من هذا الوزر العظيم والباطل الوخيم: ” قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق“.
ولمّا كانت هذه البراءة معلومة الحقيقة لا تخفى على علام الغيوب منها خافية أردف عيسى عليه السلام قائلا: ” إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنّك أنت علام الغيوب“.
…إلى أن قال عليه السلام: “إن تعذبهم فإنهم عبادك” وقد أضافهم إلى ربه إضافة خلق كونية لا إضافة عبودية شرعية، فلا تشريف لهم إذن وقد اختاروا الضلالة على الهدى وظلمات الشرك على نور التوحيد الخالص.
ثم لمّا علم عليه السلام أن المقام ليس مقام رحمة ومغفرة قال: “وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم” ولم يقل مخبرا عن ربه في حضرته أنه هو الغفور الرحيم، وقد عُلم من شرعنا الذي له أصل وامتداد إلى شرعهم المنزل حينها على المنوال الواحد الذي أرسلت به كل الأنبياء والمرسلين ابتداء وأنزلت لأجله كل الكتب أولا وأخيرا، عُلم: “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء“.
ولذلك فإن عزة العزيز، وحكمة الحكيم جل في علاه تأبى ها هنا التوقيع بروح المغفرة والرحمة على سيرة وركز من اتخذوا من دونه آلهة لا تخلق وهم يخلقون، ولذلك كان من جميل الحكمة وبديع الخطاب وجمّ الأدب أن ناسب المقال النبوي المقام الرباني بقوله عليه السلام: “إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم” والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.