فن افتعال التهمة بين الافتراء والاجتراء 2/2 محمد بوقنطار

لعل الواحد من هؤلاء الذين يقصرون الحق ويفصلون ظله على مقاسهم، ويحصرون الضلال والتيه في مخالفيهم، ويتصدرون المجالس ويعتلون المنابر بكل أشكالها ليدافعوا ويستنكروا ويفككوا خلايا الأسباب الكامنة وراء تخلف الأمة وتردي أوضاعها الفكرية والعلمية والاقتصادية، في جو تحكمه الحميّة ويُسمع لسيرته النوح المستأجر والتباكي المأجور.
لو رأيته وهو ينافح عن الغناء والرقص بالتبان، ويذود عن حقوق المثليين، ويدافع عن شرعية القبلات في الفضاءات العامة، ويسعى إلى تقنين الدعارة وترسيم خارطة طريق للمواخير والعلب الليلية، والتمكين للقمار من حقوق الاستشهار له في وصلات الإعلام العمومي، والمدافعة بالتي هي غير أحسن عن حق الإفطار، والسماح لمعشر المفطرين بالعربدة في شوارع المملكة بكل صفاقة نهارا جهارا، ويرفع عقيرة التصدي والمقاومة لحق التعدد الشرعي، ويجرم زواج الصغيرة الحائض البالغ دون سن الثامنة عشرة، والضرب صفحا عن حالات الاغتصاب التي يرتكبها السائح الأجنبي في أروقة الفنادق المصنفة، وما يرتكب في حق الصغيرات والصغار المتاجر بأعراضهم وأجسادهم من سادية واعتداء، لطالما شبعنا من عويل القوم وشكواهم بالليل والنهار ضد توهم وقوعه في دائرة الحلال ووحشية الشرع المتوثب كما هو الزعم القائم والتخرص الصادم… لعلمت عن أي تطور وحداثة وتقدم وحضارة يهرول هؤلاء في مسعى تحقيقها وتثبيت أركانها في مجتمعاتهم ومحاضن جثثهم وعقولهم المتصابية.
يتم كل هذا وزيادة لا يتسع المقام إلى التماهي مع تفاصيلها، تحت ذريعة الانتصار للمفاهيم الإنسانية، والاصطفاف المنصف لقضايا بني البشر في ما له علاقة بالحق في كامل التحرر، وكسر أغلال الاستعباد والتحرر من قيود الحلال والحرام، التي تنعت شريعتها بالتاريخية، وبأنها أساطير الأولين وخرافات الجاهلين، من جنس ما أكل الدهر عنه وشرب، بل تجاوزه وحاز المفاوز بعده وفي غياب سلطته الأفيونية.
ولا شك أن هذا كله يخرج إلى الوجود في قالب يتقمص رواده دور الناصح الأمين، والحارس المشفق الغيور على حمى الأرض والعرض، والراغب في شوق ونهم بأن تنال أمته حظها من التحضر والتفوق المادي الباهر والقاهر.
والمأساة أن تجد وتقف على حقيقة أن قوة هؤلاء ما فتئت تتزايد وتتغول، جراء ما يحظى به هذا الصنف من رعاية وعناية وتفرد ونفوذ صارخ في مختلف أجهزة التوجيه والإعلام البئيس بكل أشكاله ومساحاته الواسعة التأثير، ولا ريب أنه نفوذ وتأثير أعاد صياغة وترتيب المقاصد والأولويات، بل ساهم في تحوير وقلب المفاهيم، والعبث بالمقاييس والمعايير الصحيحة السليمة والفاعلة في تحديد الرؤى والنظريات، بله في تمييز الصالح من الطالح والأمين من الخائن والصادق من الكاذب، وإلباس الرويبضة لباس القدوة.
ولسنا في حاجة بعد حصول هذا الفصام النكد وما صاحبه ويصاحبه من زيغ وانحراف وتمرد، إلى الإشارة والتلميح للحالة المرضية التي يكون قد وصل إليها المجتمع، ومعه الدولة ومؤسساتها الوازنة في مجالات ما يخدم الاتجاه الدركي للسياسة العامة للدولة، أو ما يخدم الاتجاه الإنقاذي والاجتماعي لها.
وهذه حقيقة لا يلتفت إليها، ولا يحسب لها حساب خلال القيام بعملية سبر غور الأسباب المباشرة لوصول الأمة إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط، وليس المراد من ذكر هذا التغافل ربطه بصنف المطففين والمترفين فإن النية هنا غيرها هناك، وإنما هو أمر يخص من نحسبهم على خير وعض عليه بالنواجذ، ذلك أن استقراء مواقفهم، والوقوف مع ما راكمته تجربتهم يبيّن أن واقع هذا التغافل كائن في أدبيات مدافعتهم، وليس لكينونته راد ولا دافع.
ومعنى هذا الكلام أن فئة المخلصين من حراس الثغور وحياضها لم ينتبهوا إلى ما هو كائن بفعل إفراطهم وإطنابهم في العكوف على بحث وتحليل ما يجب أن يكون، وإيغالهم في الأمر بطوباوية يمكن أن نقول عنها أن: “الذي عليها هو أكثر مما لها”، وإلا فالواقع يحكي بالصوت والصورة والرائحة أن المجتمع يتصدر صفوفه المتقدمة ويستأسد فيه بضرب سلام تعظيم أهل المغنى والرقص واللعب واللهو واحتراف متفحش الكلام، ومن لهم دُربة في الطبخ والتفنن في إسكات أنين معدة الأغنياء، بل وتُسلط عليهم الأضواء الكاشفة وأشعة نيون الإعلام المفلس ويفرش تحت أقدامهم السجاد الأحمر باعتبارهم النجوم والقدوات الجديدة التي صارت لها الدلالة المستوفية لنصاب القبول في مقام الاقتداء والاهتداء، وعلامات النجاح والتوفيق المطلوب.
فأي مجتمع هو؟ وكيف حالته والأمر على حال ما سلف ذكره؟
إنه مجتمع عليل سقيم محكوم عليه بمؤبد دوام حالة الفشل، بحيث يصير من ضرب الخيال أن تراهن فيه وفي مناخه الموبوء على وجود تعليم سليم وقضاء عادل حكيم، وتطبيب فعال رحيم، وقس على إفلاس هذه المؤسسات تهاوي الكثير من الكيانات المعنوية التي يعتبر صلاحها وسلامة مرفقها مؤشرا ذا أهمية على سلامة المجتمع وصحته وعلامة قوية على ملمح تطوره وانتعاش جبهته الداخلية.
وربما تساءل متسائل عن ماهية العلاقة بين نجومية أهل الفن والرقص واللعب والطبخ، بعمل الطبيب والقاضي والمعلم، وقد عُلم البون الشاسع بين مجالي عمل هؤلاء ونشاط أولئك، والحقيقة أن التركيب يطبع عملية التأثر في جانبه السلبي.
ومنه وعليه لم يقف مثلا الشرفاء والغيورون للتأمل والتأريخ لحدث وسلوك يبدو في ظاهره بسيطا عفويا متجاوزا، كحدث تخلي طبيبة عن شرف مهنتها وعظيم دورها وامتهانها -بعد هذا التخلي الحائف- لمهانة الرقص والغناء بحثا عن المال والشهرة والنجومية، أو تخلي مهندس عن سمو صنعته وشرف انتسابه، وتفضيله لحمل دف مسترزقا متسولا بضربه وشطحه في الحفلات وسهرات العلب الليلية.
مع أن مثل هذه الأحداث قد تُشرّح أسبابها ويفيض من أجلها حبر الأقلام في سلخانة المراكز الدراسية الكبرى هناك في الغرب متى ما حصلت في دائرة نفوذه، سيما وأنها مؤشرات لها دلالتها الرمزية، كما لها بوحها الصادق في التعبير عن ما وصل إليه مجتمع ما في سيره الحضاري والمدني، بعيدا عن زيف ما يقدمه الإعلام البئيس المأجور من ترقيعات وتوقعات تصب في الاتجاه الذي يعطي الانطباع الإيجابي المغلوط، فيذهب مذهب تزكية هذا السلوك المشين، بل ويجعله حدثا له وزنه وإسهاماته كعلامة فارقة بين الظلامية والتنوير.
ويا ليت الأمر وقف عند هذه الحدود، فإن عدد المنسلخين عن آيات الله يبقى محصور الدارة والضرر، ولكن الأدهى أن يمارس القاضي والطبيب والمعلم رقصه وتغنيه وطبخه المجازي بالاسم والرسم والصفة في المحكمة والعيادة والمدرسة، طمعا في الالتحاق بالركب المادي الباهر الفتان: من كبير رصيد، ووثير مركوب، وفاخر ملبس، وجميل مسكن ومضرب حراسة في الضيعات وعلى أبواب ملكية المغاني وكثير من ما وصله الفنان واللاعب والطباخ من ظاهر عيش رغيد.
وهذا مكمن المصيبة، إذ من هنا تتضاعف الشرور وتترادف الأمور وتجري في صوب الهدم لا البناء، ولك أن تسأل التلميذ عن تفريط الأستاذ وخيانته، وتسأل المظلوم عن فرط استبداد القاضي ومبلغ رصيده من الحرام، وتسأل المريض المقهور عن جشع الطبيب وقساوة إترافه، مع واجب التنبيه على حظ الاستثناء بفضل الله ورحمته من جملة كل من ذكر، فالخير في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باق إلى يوم القيامة، وزرع الله وغرسه لا يزال يعطي الدروس والعبر والحجة على الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ويبقى أن نقول أن هذه الأسباب وغيرها مما هو من جنسها ونوعها، وإن لم يمكن اعتبارها أسبابا مباشرة في حصول ما حصل من ضعف ووهن وعجز ومرض، إلا أنها في نظري تبقى وستبقى من العوامل التي ساهمت وأسهمت وتساهم في خلق هذا المناخ وتهيئة واقع موبوء متهالك وصالح لاستقبال وافدات الكثير من الأوبئة، بل وإيجاد أنواع من السرطانات التي تنخر ذلك الجسد المتراص في صمت وتؤدة، ذلك الجسد الذي فقدت نهاياته العصبية خصيصة الإحساس والشعور والاستشعار المنبه المحذر قبل فوات الأوان، حيث اشتكى منه العضو تلو العضو، ولكن في غير معهود لم تتداع له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
وليس هذا من باب الرجم بالغيب، ولكن انظر إلى ما يحدث للمسلمين من شيوخ وشباب وأطفال وحرائر في بؤر التوتر من قتل وسفك وهدم وردم واغتصاب ووأد وسحل ووو… ثم انظر لحال من ابتلي بنعمة الأمن من الخوف والإطعام من جوع لترى الرقص والغناء واللهو واللعب والمجون طافحا معربدا ثملا متجرئا في جحود، وتلك قنواتنا وقنوات الكثير شاهدة على هذا بالصوت والصورة وأز الأثير…
فبئس الأخوة، وبئس النخوة، وبئس المروءة، وبئس النوح والبوح، وبئس التنديد والاستنكار، وبئس العزاء والتأبين… عندما تتفاعل الأمة بحزن ومرارة مع موت راقصة، أو هلاك فنان، أو أسر مطرب ملأ الدنيا فسادا وإفساد، أو إصابة لاعب كرة أجنبي بتمزق عضلي… بينما تضرب صفحا عن كل ما يقع للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، من قتل جماعي لجنسهم، وإهلاك لنسلهم، وحرق لزرعهم، وترويع لوجودهم الآمن المسالم في ذل وصغار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *