إن الفئة الأولى من المؤمنين الذين اعتبرناهم متصفين بصفتي “الإخلاص” و”الصواب”، هم الجلساء الصالحون بصيغة الجميع في الحديث النبوي المتقدم. والصالحون هم المتسمون بالبر والخير، والإحسان والاستقامة، بدليل قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. فضلا عن كون الصالحين عادلين، سائرين على طريق الهدى والفضيلة والنور. من جالسهم فكأنه جالس حامل المسك. وحامل المسك يفيد لا شك جليسه بحكم العادة أو بحكم التجربة. وحتى بحكم العقل. فإما أن يقدم له بدون مقابل بعضا مما لديه. وإما أن يشتري منه المقدار الذي يريده، وإما أن يكتفي برائحته الزكية التي يستنشقها وهو سعيد فرحان، ومبتهج جدلان.
وتشبيه سيد الناس صلى الله عليه وسلم لِما لدى الجلساء الصالحين بالمسك وسيلة من وسائل الإيضاح التعليمية المعروفة عنه أولا. ومثل من أمثال الحكم التي تفيض بها أحاديثه ثانيا. وتعبير مجازي عما يحملونه من علم وعما يتحلون به من فضائل ثالثا.
فمن قصدهم وزارهم ووقرهم وقدر مكانتهم، لن يعود من وفوده عليهم وهو يجر أذيال الخيبة كما يقال، وإنما يعود وقد حاز من البركات ما أمكن له أن يحوزه على قدر نيته، وعلى قدر عقله، وعلى قدر استيعابه وانتباهه ومستوى حافظته. والبركات هنا هي ما استفاده من علم المزور، ومن حكمه، ومن مواعظه، ومن دعائه. فيكون مجموع ما عاد به من عنده بلسان النبي الفصيح صلى الله عليه وسلم، قدرا من المسك الأظفر الذي لا يقدر بثمن. وما حصل عليه بعبارة أخرى إضافة أو زيادة على ما كان عنده منه. والزيادة بركة. والعلماء الفضلاء المستقيمون الورعون نبع ثري للبركات بالمفهوم السني. لا بالمفهوم الضلالي المبتدع!
أما الفئة الثانية، فجماعات من أدعياء الصلاح الذين تتألف منهم طوائف مختلفة، أو متقاربة من حيث القناعات النظرية والممارسات التعبدية. بحيث إننا نجد على رأسها شيوخا مؤسسين للطرق الصوفية، وشيوخا خلفاء لهؤلاء المؤسسين بعد انتقالهم إلى العالم الآخر. ولنقل صراحة بأننا نقصد كل من أحدث “طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية. يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه” كما ورد عند الإمام الشاطبي في الاعتصام.
والمحدِثون لطرق مبتكرة في العبادة ذمهم الله ورسوله. إذ أنهم بفعلتهم النكراء يلقون وراءهم ظهريا قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}المائدة. فكأن لسان حالهم يقول: “إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم”.
قال ابن الماجشون: “سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة”.
وحتى لا نطيل الكلام للتدليل على أن الطرق الصوفية جميعها غارقة في البدع والخرافة. فلننصف المتصوفة الرواد الذين لم يؤسسوا فرقا هم شيوخها ومرشدوها الموزعون لما لهم من بركات على الأتباع. وعلى غير الأتباع من الذين يقصدونهم للتبرك مقابل فتوح مالية وغير مالية. فالتوغل في الظلام الصوفي لا نجده عند الصوفية الأوائل مما يؤكد لنا أن التصوف الذي يجعل الزهد مرادفا له -وهو التصوف الحقيقي الذي شغف به الزهاد الأوائل- قد ذهب إلى غير رجعة! أما التصوف الطرقي بالتحديد منذ ظهوره حتى الآن لا يصح – وعلى ذمتي- وصفه أبدا بكونه سنيا لا على وجه الإطلاق! ولا على وجه التقييد!
والنتيجة أن الطرقيين على طول البلاد وعرضها،، كانوا شيوخا أو كانوا مريدين، لا بركة عندهم يقدمونها لمن طلبها منهم في الماضي والحاضر والمستقبل. خاصة وأن البركة عندهم شيء سيال متنقل من شخص إلى آخر بطريقة ظلامية! إضافة إلى أن جل ما يفيدون به قصادهم مجرد ضلالات في ضلالات خاصة متى تم التركيز فيها على ادعاءات مثل رؤية المختار صلى الله عليه وسلم في اليقظة! والأخذ عنه! ومثل قراءة ما في الضمائر! وقراءة ما في اللوح المحفوظ! بغض النظر عما يشتغلون به من بدع العبادات!
أما الفئة الثالثة التي تتجسد فيمن يتظاهرون بالصلاح، فلا بركة عندهم نبحث عنها لإثراء معارفنا في الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن. وجزى الله خير الجزاء العلامة الحسن اليوسي الذي فضح بعضا ممن تظاهروا بالصلاح على عهده! ثم جزاه الله خير الجزاء لأنه نبهنا إلى خطر الاغترار بمن يرتدون لباس الفقر والتقوى والورع، وهم يحملون بين جنبيهم جرثومة الإفساد والإضلال!
أما الفئة الرابعة، فتتشكل من متظاهرين كذلك بالصلاح. إنما دون أن نتمكن من كشف عوارهم وهم أحياء، بحيث ترتبط بهم البركة المزعومة إلى جانب كرامات نسجها حولهم الأتباع جريا -في الغالب- وراء المردود المادي! ترتبط بهم هذه وتلك بعد رقودهم الطويل في أضرحة مِن تشييد المبتدعين. هذه التي تتحول إلى مزارات يحضر الزوار إليها لقضاء ما يشغل بالهم من مآرب لا يقضيها غيره عز وجل. وهم في الواقع إنما يتحاورون حوار الصم والبكم مع مجهول!
وعندما نصل إلى الفئة الخامسة نكون قد وصلنا إلى جماعة من الصالحين الذين دأب الأغمار وأشباه العلماء وأشباه المثقفين على إحاطتهم بمزيد من التقديس،، لا لأنهم ينتمون إلى الطوائف الصوفية التي تنتمي إليها عناصر هذه الجماعة فحسب، وإنما كذلك -من باب التقليد الأعمى- تعودت الاحتفاء في مناسبات عدة بهؤلاء الصالحين المفترضين الذين لبعضهم بالفعل تاريخ، لأنهم من نسيج الواقع التاريخي، في حين أن بعضهم من نسج الخيال في فترات تاريخية ملفوفة بالظلام الذي يتحرك فيه اللصوص بعيدا عن الضياء والنور!
نقصد أولا متصوفين طرقيين معروفة لنا تراجمهم في أكثر من مؤلف. ونقصد ثانيا صلحاء وهميين لا وجود لهم في الواقع. فالمعروفون مثلا بسبعة رجال مراكش، وإن حشر من بينهم القاضي عياض المتسنن. أما الباقون -بدءا بأبي العباس السبتي وبما حيك حوله- فلا صحة إطلاقا بأنهم مخلصون صائبون! ونخص بالذكر هنا أتباع محمد بن سليمان الجزولي وطريقته وقناعاته! في حين أننا نقصد بالصلحاء الوهميين سبعة رجال رجراجة الذين هم من الصحب الكرام البررة الأمازيغ على حد زعم رواية المفترين. إذ لدينا من الأدلة التاريخية ما يكفي لاستئصال هذا الذي نصفه بالورم الخبيث من ذاكرة الأمة المغربية المسلمة الواعية! فضلا عن امتلاكنا لأدلة قرآنية وحديثية نفضح بها أكثر من ضلاليٍّ تقام اليوم على أضرحتهم المواسم! بغض النظر عن التبرك بهم كما يفعل الرعاع وغير الرعاع ممن امتلأت عقولهم بالتاريخ والجغرافيا والأدب وحتى الفلسفة! فلنحصر إذن حملة البركة في الفئة الأولى دون غيرها. أما بقية الفئات وهي أربعة، فليس لديها بركة! لا بمعناها القدحي الظلامي! ولا بمعناها المستساغ كتابا وسنة!