تنبيه بخصوص معنى “أهل السنة والجماعة”! طارق الحمودي

على هامش ما صدر عن المؤتمر الغريب والمثير الذي عقد في الشيشان إحدى الولايات التابعة لروسيا المنهمكة اليوم في ذبح أطفال سوريا، والذي احتفل فيه بأكابر عمائم النظام المصري مثل مفتي الدم علي جمعة، والمتخصص في السكوت أحمد الطيب، مع “رتوش” تجميل باستدعاء حاتم العوني ممثلا عن “السلفية” وغيره، انتبهت إلى واحدة من الإشكاليات التي تسببت في إحداث الصدع في صفوف العلماء قبل أتباعهم، وهي إشكالية مصطلح “أهل السنة والجماعة”، وموضع الإشكال أو قل المشكل أن الناس ينشغلون بالمصطلح عن التحقيق في مضمونه، فما المقصود بأهل السنة والجماعة؟
على خلاف ما يبدو عليه اللقب، فهو يحيل إلى حقيقة لا أفراد، ويؤسس لهذا ما صححه العلماء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا في خصوص الفرقة الناجية، ومحور الرحى أنه ورد الحديث بلفظ “وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة…» فانتبه العلماء إلى أن المقصود المنهج لا أفراد من يدعي متباعته.
كنت دائما أفضل الحديث عن “الفكر” عوض محاكمة “مفكريه” إلا عند الحاجة العلمية، ومن ذلك أنني أفضل الحديث عن الفكر الأشعري لا الأشاعرة إلا نادرا، وبقيود أحمل نفسي على التزامها، وكنت أرى هذا أسهل في التناول نظريا، وتأكد لي ذلك عمليا مرارا، ونتيجة لذلك كنت أستطيع أن ألاحظ اجتماع أجزاء المناهج في فرد ما، فيكون فيه من السلفية بقدر ما يكون فيه من غيرها، ومن أولئك كبار كابن حجر وابن عبد البر والخطيب البغدادي في آخرين، وكذلك مكنتني الطريقة التي ارتضيتها لنفسي أن ألاحظ معالم الفكر الإرجائي عند الشيعة والجهمية والصوفية.. بل والخوارج أنفسهم، وهو أمر لا يفهم إلا بالممارسة البحثية، ولذلك لم يكن من العلمي في شيء أن يعيَّن أهل السنة والجماعة في الأشاعرة والماتريدية في العقيدة والمذاهب الأربعة في الفقه والصوفية في الأخلاق.
وبغض النظر عن هذه التلفيقة الغريبة العجيبة البشعة، وبغض النظر عن إقصائهم لأهل الحديث في ذلك، فقد كان الأولى أن ينصوا على ضوابط علمية ومعالم ومميزات من يصح أن يقال عن فكره أنه فكر الجماعة والسنة، والأمر لله تعالى أولا وآخرا، هو أعلم بمن اهتدى، مستمدين ذلك من الكتاب والسنة ومن مقالات الصحابة ومن تبعهم بإحسان دون مخالفة أو زيادة عوض كل ذلك.
يسهل علي تجاوز كل هذا، لكن الذي استثارني ما صرح به حاتم العوني حفظه الله من كون الخلاف بين أهل الحديث والأشاعرة خلافا لفظيا، وهذا أمر يخالف مقتضى تاريخ الخلاف بينهما، بدأ بموقف أحمد بن حنبل من الفكر الكلابي الذي ورثه الأشاعرة، ولإن كان قيد العوني الأشاعرة في كلامه بالمعتدلين، فليس مثل الأصل “ابن كلاب” والورقة “ابن الباقلاني”، وخلافهم مع أهل الحديث عميق، عمق نظرية الجوهر الفرد.
سآخذ مثالا واضحا على حقيقة الخلاف بين الطائفتين، وهو ابن تيمية، الذي انتقدهم في “درء تعارض العقل والدين” في خمسة مجلدات، وانتقدهم في “النبوات” مع غيرهم في مجلدين، وفي غيرهما انتقادا يدل على عمق الخلاف، بدء بما يجب على المكلف أولا وانتهاء بأخبار الجنة والنار مرورا بمفهوم النبوة.
أما التصوف الذي يتحدث عنه المؤتمر، فتصوف الخرافة والدروشة، بل تصوف يدعي أن المتصوف يمكن له أن ينال مقام النبوة بالمجاهدة كما قال أبو حامد الغزالي وبعده ابن عربي الحاتمي، بل وصرحا بإمكانه بل بحصوله، وهو الكشف أو الوحي الإلهي للصوفي.
أما حصرهم المذاهب الفقهية في الأربعة فمصادرة تاريخية وفكرية لمذاهب لا تزال قائمة كلها أو بعضها، ويبدو من طبيعة هذا البيان الصادر عن ذلك المؤتمر أنه بيان موجه سياسيا لخدمة البراميل المتفجرة البشَّارية، والصواريخ البوتينية، والميليشيات الخمينية، وأخيرا… الفضائح السيساوية.
قبل الختم أود الإجابة عن السؤال الأول، عن حقيقة لقب “أهل السنة والجماعة”، وألخص جوابي في:
معنى “الجماعة” أي جماعة الصحابة أولا، ثم كل أمة تلتزم بما كانت عليه جماعتهم، لقوله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا»، ولا يخفى أن المؤمنين في الآية هم الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يعني أنهم أصل في مفهوم “الجماعة”.
ومعنى “السنة” من جعلها مقدمة على العقل، حاكمة على الخواطر، منزهة عن كل قواعد الفهم التي لم يكن عليه الصحابة رضي الله عنهم، والتي دوَّنها علماء الأمة في كتب أصول الفقه الأصيلة السالمة من شوائب الفلسفة والمنطق اليوناني، كالرسالة للشافعي والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي وغيرها مما يعتمد في استمداده على الكتاب والسنة وتصرفات الصحابة، والعقل المتفق عليه، واللغة العربية، فأهل السنة والجماعة هم من يلتزم “أصول فقه” السلف في قراءة الوحي، عقيدة وشريعة وسلوكا.
هذا باختصار، تعليق خفيف على المؤتمر وبيانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *