هذه سلسلة مقالات سميتها «اعرف كتابك» تعنى بالهدى المنهاجي لآيات القرآن الكريم تعريفا وتعليما وتلاوة وتزكية… نهدت فيها تبصير التالي للقرآن الكريم بالمنهج الكفيل بإذن الله تعالى لإعادة بناء الأنفس على وزانه، ووفق مقاييس تصميم بنائه الرباني؛ وتدور كلها حول المحاور التالية:
– تجديد الاتصال بالوحي.
– إعداد دليل عملي لتدارس القرآن وتدبره.
– بيان منهج الاشتغال بكتاب الله وكيفية إعادة بناء أنفس العباد وفق أوامر الله.
الحلقة الأولى: اعرف كتابك
الحمد لله الذي أنزل على خاتم الرسل والأنبياء أكمل كتاب فكشف به ظلمات الجهل وأسباب العذاب، وأماط به عن نفائس العلوم وذخائرها الحجاب، وكشف به عن حقائق الدين وأسراره ومحاسنه النقاب، وفتح به لنيل مآرب الدارين الباب، وأغلق باتباعه والعمل به دون الشر جميع الأبواب، تحيى بوابل علومه القلوب النيرة أعظم ما تحيى الأرضُ بوابل السحاب، يتميز بتدبر آياته الخطأ من الصواب، وتجل ألفاظه ومعانيه وأحكامه وأخباره عن الوصمة والعاب {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿29﴾} [سورة ص].
وعد الله متبعه ما هو خيرا وأبقى وقال فيه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ﴿123﴾} [سورة طه]، وأوعد المعرضين عنه من جميع الأحزاب النار، قال سبحانه: {أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿17﴾} [سورة هود]، وشبه بالحمر المعرضين عنه من الكفرة، قال عز وجل: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴿49﴾ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50)} [سورة المدثر]، وبين تعالى أن المعرض عنه يحمل يوم القيامة ما لا يستطيع له حملا، قال سبحانه: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ﴿99﴾ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً ﴿100﴾ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ﴿101﴾} [سورة طه].
وفتح الله تعالى به قلوبا غلفا وأعينا عميا، وآذانا صما، وقال فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴿124﴾} [سورة طه]؛ لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على طول التكرار ما تعاقب الليل والنهار، رفع الله تعالى به قوما ووضع به آخرين: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [سورة القلم]، وهو آخر الكتب السماوية عهدا برب العالمين، فكل الشر في الإعراض عنه وكل الخير في الإقبال عليه، فطوبى لمن كان حجة له، وويل لمن كان حجة عليه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [سورة فصلت]، {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} [سورة يس].
ولله ذر الشافعي الذي قال:
فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه
إن القرآن أنزل لتوحيد الرحمن وعمارة الأكوان وتزكية الإنسان، لهذا جعله الله دستورا يقوم على دعائم البرهان، فأطلقَ به العقل من أسْرِه، وأخرج الفكر من حبسه، وحرر به الناس من استعباد السادة والكهان…
فالقرآن أشهر من أن يعرف، إنه آيات الله الباهرة التي حولت العرب من الشقاء إلى السعادة، ومن الذلة إلى السيادة؛ لقد نفث فيهم روحا علويا جديدا حتى فتحوا نصف الكرة الأرضية في أقل من نصف قرن، يصحبهم العلم، ويلازمهم العدل، يقول غوستاف لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحا أرحم ولا أعدل من المسلمين»، فماذا زاد على هؤلاء الناس الذين لم يكونوا شيئا مذكورا غير هذا الكتاب الإلهي؟ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [سورة المائدة].
نعم إنه لما كان القرآن كانت هذه الأمة: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)} [سورة آل عمران].
يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني به الله فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» البخاري ومسلم.