تحذير أهل الخير والإيمان من الافتتان في الدعوة بطول الزمان رشيد مومن الإدريسي

من معالم التفكير الصحيح وجود الغيرة على حرمات الله، فإن وجودها يحمل على الثبات وسلوك الصراط المستقيم ومناصرة الحق والدعوة إليه، لكن إذا لم تنضبط هذه الغيرة -خاصة زمن المحنة والفتنة- بالصبر المليح والعلم الصحيح فقد تحمل صاحبها في دعوته على ما يخالف شرع رب العالمين، وطريقة السلف الصالحين! كل ذلك بنية بلوغ المقصود، والانتهاء إلى المطلوب، فيستعجل المرء سبيل الحق ويستطيله بدعوى المبادرة!! التي لم تكتمل أسبابها بل ربما هي ضعيفة جدا إلى أساسها، فيقع ما يقع مما يحملنا على التدارك والمناداة للتشارك!! مع التنبه إلى أن “الدفع أولى من الرفع”1.

فاعلم -يا رعاك الله- أن “العجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته2 فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها كلها… ولهذا كانت العجلة من الشيطان فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم؛ وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها3 وتجلب عليه أنواعا من الشرور وتمنعه أنواعا من الخير وهي قرين الندامة فقل من استعجل إلا ندم..”4.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كشف لنا عن حقيقة طول طريق الحق بخلاف غيره كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه؛ ثم تلا قوله: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)”5.
فدل هذا الحديث بوصفه ورسمه أن نهج التغيير وطريق الحق طويل وأن النجاة في السير عليه وفق العلم والدعوة والصبر دون نياحة ولا عويل 6 فهو “الطريق الوحيد الموصل إلى الله وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذه الطريق الواحد، فإنه متصل بالله موصل إلى الله”7.
وعليه فالحذر الحذر من بنيات الطرق التي تخالف نهج أولي الألباب، ومن تلبيس من يشكك في طريق الصواب، ويخذل عن سبيل الحق أو يرتاب، فما دفع أولئك إلى ذلك إلا استعجال الوصول والافتتان بامتداد الزمن والطول، وصدق القائل: “من استطال الطريق ضعف مشيه”8.
قال ابن عاشور رحمه الله: “ووصف الصراط بالمستقيم أي الذي لا خطأ فيه ولا فساد.. والمقصود إتمام هيئة التشبيه بأنه دين لا يتطرق متبعه شك في نفعه كما لا يتردد سالك الطريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحير في أمره”9.
فَنُذَكِّر الذين افتتنوا في دعوتهم بطول الزمن فاستعجلوا لَمَّا لم يبصروا الثمرة المرجوة بقوله تعالى: (أعجِلتُم أمرَ ربِّكم)، ونقول لهم: كم لبث نوح عليه السلام في دعوة قومه؟!
قال سبحانه: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً” (العنكبوت:14)، والشاهد من هذه الآية إضافة إلى ما تَنْضَحُ به وكلها شاهد أنها لم تَرِد في سورة نوح وإنما في سورة العنكبوت وذلك تحذيرا من الافتتان بطول الزمن في الدعوة لعدم تحقق المطلوب أو ضعفه، ووجهه أن سورة العنكبوت موضوعها العام الحديث عن الفتن والكلام عن المحن10 ولذا قال تعالى في مطلعها: “الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”.
فالسير في طريق الدعوة إلى الله تعالى وحمل هَمِّ الإصلاح والتغيير11 وفق سنن الله الشرعية من آفاته الاستعجال والتسارع، مع أن الزمن زمن شبهات وتصارع (!!).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إنها ستكون هنات12 وأمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة، فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة”13.
ذلك لأن العلم على نوعين: محكم ومتشابه أو مشتبه، فأما المحكم فهو ما يعلم أنه حق بدليله أو من كلام أهل العلم المحققين والراسخين فيه المؤتمنين عليه.
والمتشابه هو ما يشتبه على النفوس كونه من الحق أو الباطل، والمنساق وراءه أمره إلى مزلة أو ضلال. وعليه فإذا أقبلت الشبهات والهنات فعليك بالتؤدة والرفق والتأني والأناة14 لأن هذا الطريق هو طريق السلامة، بحيث يكشف لك عن حقيقة ذلك المتشابه فيحسن تعاملك معه ويصح تصرفك تجاهه.
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في الأدب المفرد15 عن علي رضي الله عنه أنه قال: “لا تكونوا عُجُلا مَذَايِيعَ بُذْرا، فإن من ورائكم بَلاء مُبَرِّحا أو مُكْلِحا وأمُورا مُتَماحِلَة رُدُحا”16.
والمقصود “لا تستعجلوا في إذاعة الأشياء والفواحش ولا تفشوا الأسرار، فهناك بلاء شديد شاق ينتظركم، وفتن ثقيلة تترقبكم، فلا تُسْهِمُوا في صنع الفتن والرزايا، وحذارِ أن تكونوا عيابين بإشاعة الأسرار، لأنه يصعب الرجوع عنها، ولا تزداد الفتن إلا توقدا وشدة”17.
فلا تعجل افتتانا بطول الزمن وادفع ذلك بالإيمان والسير وفق الصراط المستقيم وهدي الأنبياء والمرسلين خاصة خاتمهم عليه صلوات وسلام رب العالمين فـ”من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”18.
قال العلامة السعدي رحمه الله في بيان معنى هذه القاعدة: “..العبد عبد مملوك تحت أوامر ربه ليس له من الأمر شيء.. فإذا تعجل الأمور التي يترتب عليها حكم شرعي قبل وجود أسبابها الصحيحة 19، لم يفده شيئا وعوقب بنقيض قصده… ويُقَابِل هذا الأصل أصل آخر: أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ولم يجد فقده”20.
فالداعية إلى الله تعالى “إذا أراد هداية أحد أو دعوته إلى الإسلام أو أصل من أصوله أو فرع من فروعه أو تعليمه لعلم نافع، ثم رأى من المدعو نفورا وإعراضا أو بلادة وقلة فطنة فإن أخذه الملل واليأس من إدراك المقصود منه وعدم رجاء انتفاعه لم يلبث إلا قليلا حتى يدع دعوته وتعليمه فيفوت بذلك خير كثير.
وإن هو سلك مسلك نبيه عليه الصلاة والسلام في دعوته وهداية الخلق وعلم أنه مكث مدة طويلة يدعو الناس إلى الإسلام والتوحيد فلا يلقى أذنا سامعة ولا قلبا مجيبا فلم يضعف ولم يلن؛ بل لم يزل قوي الرجاء؛ عالما أن الله سيتم أمره؛ ماضيا على دعوته حتى فتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وبلغت دعوته وهدايته ما بلغ الليل والنهار.
فإذا جعل هذا بين عينيه، لم يشتدَّ عليه أمر من الأمور”21.
ولأجله كانت آية لبث نوح عليه السلام مع قومه “مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله عليه السلام وتثبيتا له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره”22.
وصدق الله حيث قال: “وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ” (الرعد:40).
وعليه فالتدرج في مسالك التغيير والدعوة، وعدم الاستعجال مدخل رئيس وهام غاية في التعامل مع مجريات الأحداث(!!)، وبالغفلة عنه نفقد الكثير، فحري بالدعاة إلى الله تعالى على بصيرة أن يضاعفوا جهودهم في تبصير الناس وتوعيتهم، وأن يسعوا حثيثا إلى الإصلاح لا على وفق مجرد التجارب أو ما نراه من الأنظار الفكرية (!!)، بل تمسكا بطرائق الأسلاف وسُنن الله الشرعية مع استشراف الخطوط العريضة في ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: “فأطاعه طائفة فأدلجوا على مَهْلِهِمْ فنجوا”23.
فهذه الجملة تحتاج منا إلى وقفات وتأملات إذا دخلنا ميدان الإصلاح والتغيير، لأن سوء الطباع، وقبيح الأوضاع، والأخطاء المتراكمة وكثرة الأوجاع، ظهرت في المجتمعات، وتبدت في الأقوال والتصرفات شيئا فشيئا عبر سنوات، ولذا إذا كان النزول تَدرج واستغرق سنوات، فكيف بالعروج والبناء الذي هو أصعب وأشق ولا شك أنه درجات؟!
ثم كيف ببناء تتربصه معاول التخريب والتدمير وتجفيف المنابع النيرات، والكيد والتصنيف واتهام النيات؟!
متى يبلغ البنيان يوما تمامه — إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ولكن عندنا وعد حق لا يُخلف، فيجب أن نؤمن به إيمانا جازما وهو أن العاقبة للمتقين الصابرين العاملين بتؤدة دون عجلة مراعاة لعوامل الضعف والقوة وتلمحا لطرائق الأسلاف الكرام، ونهج الأئمة الأعلام.
فالله الله في السير على السبيل القويم، والمشي وفق قواعد السلف الصالحين، فقد انحرف كثير ممن انحرف عنه (استئناسا بالتعدد)! و(توحشا من التفرد)! و(استعجالا للوصول)!! و(ضعفا وانهزاما عن تحمل الطول)!!! ورحمة الله على من قال من السلف الصالحين: “عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطرق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين”24.
……………………………………………
1. الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي رحمه الله 2/227.
2. قال الأصفهاني رحمه الله: “العجلة: طلب الشيء وتحريه قبل أوانه” مفردات ألفاظ القرآن 373.
3. ولذا فالعجلة خلاف الحكمة، وحد هذه الأخيرة: “فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي” المدارج لابن القيم رحمه الله 2/479.
4. الروح لابن القيم رحمه الله 348.
5. رواه الإمام أحمد رحمه الله في المسند بالسند الصحيح.
6. وأحب أن أنبه -هنا- عموما على وجود فرق بين (تأسيس التغيير) و(تنفيذ التغيير)، فإن الخلط بينهما، وعدم ضبط أسس كل واحد منهما وفق نهج أهل التحقيق والتحرير يؤدي إلى ما هو مرير، وبسط ذلك في حينه إن شاء الله تعالى فإنه يحتاج إلى كثير تقرير وتفسير.
7. التفسير القيم لابن القيم رحمه الله 14-15 بتصرف يسير.
8. الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله 90.
9. التحرير والتنوير 1/1474.
10. المناسبة بين موضوع سورة العنكبوت والذي هو: “الفتن” واسم السورة، أن بيت العنكبوت تميز بأمرين اثنين، أولهما: الاشتباك، وثانيهما: أنه أوهن البيوت، وكذلك الفتن المضلة فهي مشتبكة، ولذا يحتار الحليم فيها، وسرعان ما تضمحل بعد عقد الآمال عليها فهي واهية فتأمل وبالعلم تجمل.
11. التغيير المراد -هنا- هو: التغيير الذي يحبه الله للناس، بالطريقة التي يرضاها سبحانه لهم، وهو الذي يأتي بثماره المعتبرة شرعا، وإلا فالتغيير قد يقع كَوْنا، لكنه لا يكون محمودا شَرْعا، لمخالفته الشرع، إما في مقدماته، أو في نتائجه ومآلاته فتذكر هذا ولا تغفل فتعجل فَتُمْنَعَ الصلة والوصل(!)
12. الهنات: “الشرور والفساد، يقال في فلان هنات أي: خصال شر” النهاية في غريب الحديث 5/279.
13. أخرجه البيهقي رحمه الله في الشعب رقم: 9886 وغيره.
14. قال الإمام الشعبي رحمه الله لعمر بن هبيرة رحمهما الله: “عليك بالتؤدة فإنك على فعل ما لم تفعل أقدر على رد ما فعلت” مختصر تاريخ دمشق 1/1576.
15. وهو في صحيح الأدب المفرد للشيخ الألباني رحمه الله 1/138.
16. (العُجُل): جمع عجول، و(مذاييع): جمع مذياع: من أذاع الشيء إذا أفشاه، و(بُذْرا): البُذْر: جمع بذُور، وهو الذي يفشي السر ويظهر ما يسمعه، و(مُبَرِّحا): أصل التبريح: المشقة والشدة، و(مُكْلحا): أي: يكلح الناس لشدته، والكلوح: العبوس، و(أمورا متماحلة): أي: فتنا طويلة المدة، و(رُدُحا): الثقيلة العظيمة واحدها رداح، وقيل مُغطية على القلوب، من أردحت البيت إذا سترته. انظر شرح صحيح الأدب المفرد للشيخ العوايشة حفظه الله 1/421-422.
17. نفسه 422.
18. المنثور في القواعد للإمام الزركشي رحمه الله 3/205.
19. وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون.
20. القواعد والأصول الجامعة 21-21 تحقيق خالد بن علي بن محمد المشيقح.
21. الفتاوي السعدية 469-470.
22. الكشاف للزمخشري رحمه الله وغفر له 1/948، وقال ابن عاشور رحمه الله عند تفسير الآية: “وفائدة ذكر هذه المدة للدلالة على شدة مصابرته على أذى قومه ودوامه على إبلاغ الدعوة تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم” التحرير والتنوير 1/3185.
23 . روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قوما فقال: رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة فأدلجوا على مَهْلِهِمْ فنجوا وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم”.
24. مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله 1/22.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *