إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت من محاسن الإسلام عبد اللطيف راحل

عرفت الإنسانية منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا منهجين للتربية، أولهما المنهج الرباني الذي أنزل على الرسل عليهم السلام ليُبينوا للناس ما نزل إليهم، أما الثاني فمنهج وضعي اختلقه الإنسان، كل بحسب نظرته وتصوراته للحياة ولطبيعة الفرد والمجتمع، فمن رأى في الإنسان أنه مجرد روح فحسب، سلك به سبل الرهبنة واعتزال الحياة، وآخر رأى فيه جملة من الغرائز والنزوات ينبغي إشباعها لا غير، وثالث يراه جزءا في قطيع أشبه ما يكون بالحيوان، ورابع يجعله سيدا مطلقا لا يحول بينه وبين مراده حائل من عقيدة أو خُلق أو مصلحة. تصورات ينعدم فيها التوازن والاعتدال، شأن أي منهج من مناهج البشر القاصرة.

ويبقى المنهج الرباني صبغة الله التي لا تقبل التحويل، والحقيقة المطلقة التي لا ينتابها التغيير ولا التبديل. فالمعاني الإسلامية لا تتأثر بالمصالح والمنافع، ولا تخضع لتلاعب الأهواء والمطامع، فالوفاء هو الوفاء، والصدق والعدل والإحسان والرفق والعفو عند المقدرة، والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم كل أولئك من الفضائل الثابتة ثبوت الحقائق التي لن تنال منها تصاريف الأيام، ولا يُتصور أن يأتي على الناس زمان يتواطؤ فيه العقلاء على أنَّ الصدق مثلاً رذيلة تَسِمُ صاحبها بالذم إلاَّ إذا جوَّزنا مجيء يوم يكون أفضل الذكر فيه أن يقال كلما ذكر الشيطان: -رضي الله عنه-.
تلك الموازين القسط التي قضى ربك أن تتبع، وهي التي يجب أن تحكم في العقول حتى نأمَنَ على الفضيلة. والمسلمون هم المعنيون بالدعوة إلى ذلك ونشره في هذا العالم المضطرب الذي فقد الفضائل الإنسانية، مستبدلا إياها بالنفعية المحضة والمصلحة المجردة. فهم أهل القرآن وهم أولى الناس بأنْ يَزِنُوا النهضات بحظوظها من الفضائل، وأن يبنوا أساس نهضتهم على صخرة القيم الفاضلة التي لا تنكسر أمام فساد التصور بتسمية بعض الحركات المستوردة إلى المجتمعات الإسلامية “نهضة حديثة”.
من أجل ذلك كانت الحاجة ملحة إلى معرفة المنهج الرباني بتفاصيله في مجال التربية وتنظيم العلاقات الإنسانية، والمراد بالمعرفة لهذا المنهج أن يعيش الإنسان به وله، ليجني ثماره ويذوق حلاوته في واقع الحياة. فهو المنهج الذي شمل جميع شئون الحياة، فرسم للإنسان طريق الإيمان وبَيَّن له أصول المعقتد ونظم صلته بربه وحكم علاقاته مع غيره وفق نظام متكامل نختصره في أقسام ثلاثة:
القسم الأول: شمل أبواب الإيمان بأصوله الستة ومحل بسطها في كتب العقائد.
القسم الثاني: فيه الأحكام المتعلقة بالأخلاق والسلوك التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لتتميمها.
القسم الثالث: عالج أحوال الإنسان القولية والفعلية في علاقاته مع غيره، وهي ما يسمى بالأحكام العملية المتعلقة بأفعال المكلفين ومحل دراستها كتب الفقه.
ثم إن الأحكام العملية هذه تنقسم بدورها إلى قسمين: قسم تناول أحكام العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج… أي تنظيم علاقة الإنسان بربه من الناحية العملية. أما القسم الثاني فيتعلق بأحكام المعاملات المقصود بها تنظيم العلاقات الإنسانية الشاملة لجميع الروابط العامة والخاصة، فالخاصة مثلا: ما كان متعلقا بأحكام الأسرة أو الأحوال الشخصية، أو ما تعلق بأحكام المعاملات والمقاضاة وفض النزاعات في فلك الأمة الواحدة، ومنها أيضا ما يتعلق بأحكام نظام الحكم والحقوق المتبادلة بين الراعي والرعية، أما الروابط العامة فتبحث أحكام معاملة غير المسلمين أهل ذمةٍ كانوا أو مستأمنين في الدولة الإسلامية، ومنها أحكام العلاقات الدولية حال السلم أو الحرب.
وبالجملة فالشرع الإسلامي حوى نظام حياة لا نظير له في كل الشرائع الأخرى، السماوية منها والوضعية، ذلك لأن الشرائع السماوية السابقة أنزلت تلبية لحاجيات مؤقتة ولأقوام معينين محدودين، خلافا لشريعة القرآن التي اتسمت بالشمول والعموم والثبات. أما الشرائع الوضعية فهي خالية تماما من القواعد المنظمة للأخلاق والمهذبة للذوق التي بها تزكوا النفوس وتطمئن القلوب، ولن نبالغ إذا قلنا إن الأصل في قيام تلك القوانين إنما هو تنحية كل ذلك من نطاقها في كثير من الأحوال، فهي التي عملت على تجريد الحياة الواقعية السياسية منها والاجتماعية والثقافية من العقيدة والأخلاق. وعليه فلا ضير أن تكون شريعتنا الغراء رائدة في كل ما يسهم في نسيج الحياة، أو تعلق بأي جانب من جوانبها صغيرا كان أو كبيرا، كيف لا وهي التي راعت المصلحة الكاملة للفرد والمجتمع في ضوء قواعد الاجتهاد المقررة في الإسلام، فالشريعة كما يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: “مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها”.
ثم إن مصدر شريعتنا يضفي على أحكامها الهيبة والاحترام في نفوس المؤمنين بها، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية، فهي صادرة عن اللطيف الخبير، وأصل قيامها في النفوس على الإيمان والخضوع، وهو ما يضمن الإحسان في تطبيقها وعدم الخروج عليها ولو مع القدرة على ذلك، بيد أن القوانين الوضعية تنفك عن هذه المعاني، فتجدها لا تظفر بهذا القدر من الاحترام والهيبة، إذ ليس لها سلطان على النفوس، فمصدرها الإنسان وهو لا يخلو من معاني الجهل والظلم والهوى، فيسهل على النفس مخالفتها ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وفي محكم التنزيل: “وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ” المائدة ٤٩.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *