ليس غريبا بعد زلقات صاحبنا التي حاولنا جبرها أن نجده مصرا على مواصلة عملية “حاطب ليل”، إنه يتحدث عن العقيدة الوهابية دون أن يكلف نفسه عناء توضيحها وكأنها تختلف عن عقيدة باقي المسلمين؟ ثم يدعي كون الوهابية تنطلق من قاعدة “محمد رسول لا يحب وصفه بأوصاف المدح والتعظيم”! كما أنها تنطلق من قاعدة ثانية هي بالذات تجنب “تعظيم الأئمة والأولياء”.
فأي مدح وأي تعظيم ينتظر من المؤمنين تخصيص الرسول بهما؟
ومن هم الأئمة والأولياء الذين تعمد المسلمون ازدراءهم والحط من قدرهم ومن مكانتهم في العلم والتقوى والورع؟
بخصوص مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، هناك أشعار قيلت في حقه وهو على قيد الحياة، وهناك أخرى قيلت فيه ولا تزال تقال فيه منذ التحاقه بالرفيق الأعلى حتى الآن… وقد يقال فيه المزيد منها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو إلى يوم يبعثون، لكن مدحه له ضوابط وله حدود.
إذ لا يجوز أن يتحول مادحوه إلى شعراء ركيكة ألفاظهم ومعانيهم على حد سواء، والركة في الأشعار الدينية على وجه التحديد، تشويه لحقائق التوحيد، وإساءة مفضوحة مكشوفة إلى الأصول التعبدية، ومن هنا ورد في القرآن الكريم: “وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا”.
ولمعرفة من هم الغاوون من الشعراء نقول: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره، ومنه ما يحرم. وإن “حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا” جائز كما استفدنا من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الشعر والشعراء.
ورد عند أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن” قولا لشاعر لم يذكر لنا اسمه (الاعتبار بالمحتوى لا بمجرد الكلام):
حب النبي رسول الله مفترص وحب أصحابه نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقــــــه لا يرمين أبا بكر ببهتـــــان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائلـــــــه والبيت لا يستوي إلا بأركان
وقال أبو بكر الصديق يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقدنا الوحي إذ وليت عنــــا وودعنا من الله الكــــلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثنا ميراث صـــــدق عليك به التحية والســـلام
قال أبو عمر: “ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثل به، أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنى ولا لمسلم أذى”.
وعندنا الكثير الكثير من شعر الأتقياء المخلصين الصادقين، المستقيمين المتبتلين الخاشعين القانتين. كما أن لدينا الكثير الكثير من شعر الضالين الذين يعدهم المخدوعون من أولياء الله الصالحين، بينما هم في الواقع من أولياء الشيطان الفاسدين المفسدين.
وبما أن محمد بن عبد الوهاب النجدي يدعو إلى مواجهة هؤلاء ونصحهم، والكشف عن وجوههم الحقيقية بالكافي من الأدلة والبراهين الدامغة، فليسمع صديقنا الصحفي النابغة ما يرضيه أو لا يرضيه، صادرا عمن يحتفى بهم على المستوى الرسمي والشعبي. ولتكن البداية بصاحب “البردة” و”الهمزية” في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهو للتذكير محمد بن سعيد الدلاصي الصنهاجي المغربي الأصل (ت:696هـ)، تلميذ أبي العباس المرسي الذي يحلف به المصربون، والمرسي تلميذ أبي الحسن الشاذلي، مؤسس الطريقة الشاذلية التي تعود إليها كل الطرق الصوفية المغربية ما عدا القادرية والتجانية. والشاذلي تلميذ عبد السلام بن مشيش، أو ابن بشيش كما يقول الإخوة المصريون، وهؤلاء جميعهم يشكلون سلسلة ظلامية، أصابت الدين بمبتدعاتها في الصميم!
قال البوصيري في “البردة” التي تتلى رسميا في المناسبات الدينية، وخاصة في ذكرى المولد النبوي الذي هو ذاته من ضمن المبتدعات تلك:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
فهل هذا مدح منه للنبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هو على العكس تشويه لحقيقة بشريته؟ وتشويه بالتالي لعقيدة أهل السنة والجماعة؟
وإلا، فهل الله عز وجل في أمس الحاجة إلى عون محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الدنيا من العدم إلى الوجود؟ وإن كان الأمر كذلك، فما الذي تعنيه سورة “الإخلاص”؟ وما الذي يعنيه قوله تعالى: “وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ”؟ ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر مخلوق يدخل في قول الله العلي العظيم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”؟
ثم يضيف البوصيري إلى الظلام المتقدم ظلاما آخر فيقول:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
بينما هو صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبده ورسوله”! فتتضح زندقة البوصيري وهو يدعي أن الدنيا والآخرة من الجود الذي أغدقه صلى الله عليه وسلم على البشرية جمعاء! فكان أن حل عنده في اعتقاده الرسول محل الحق سبحانه!!!
وهنا يلزم إلغاء الربوبية، أو القول بربوبيتين: روبية محمد صلى الله عليه وسلم، وربوبية الله جل وعلا! فضلا عن كون الرسول -كما ادعى البوصيري- يملك علم اللوح والقلم! يعني أنه مطلع على ما في اللوح المحفوظ الذي يدخل في باب الغيب.
وهنا لا أهمية لقوله سبحانه -والخطاب موجه إلى نبيه- “قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ”! ثم إنه لا أهمية لقوله تعالى عن موضوع الغيب نفسه -والخطاب موجه كذلك إلى الرسول الأكرم- “وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.
وبما أن الضلال البوصيري الذي قدمناه مختصرين، والذي يدخل في باب مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حسب زعمه وزعم مواليه! وبما أنه صادر عن صوفي شاذلي، فإن هناك ظلاما آخر لصوفيين آخرين، هم لدى الطرقيين المغاربة قدوة، لأن هؤلاء إما شاذليون وإما درقاويون وإما تجانيون.
يقول مجدد الطريقة الشاذلية (محتسب الصوفية على حد زعم الزاعمين): أحمد زروق (846هـ-1442م) في مسمى “المنظومة على سفينة النجاة”:
وملكت أرض الغرب طرا بأسرها وكل بلاد الشرق في طي قبضتي
وأعزل قوما ثم أولي سواهـــــــــم وأعلي مقام البعض فوق المنصة
والطرقيون المغاربة المنتمون إلى الشاذلية تحديدا يدينون بالولاء لهذا الشخص، وهو كما يدعي ممسك في طي قبضته بالشرق والغرب، فكان من تصرفه ومن قدرته اللامحدودة أن يولي من يريد، ويعزل من يريد (=العطاء والمنع) ويرفع أناسا ليضعهم على منصة المجد والسؤدد والغنى المادي والمعنوي!
ويقدم الجيلاني عبد القادر البغدادي نموذجا مماثلا للزندقة التي وقفنا عندها للتو، يقدمه في مسمى “الوسيلة” التي تعد من ضمن أوراد القادريين فيقول:
ضريحي بيت الله من جاء زاره يهرول له يحظى بعز ورفعة
توسل بنا في كل هول وشـــــدة أغيثك في الأشياء طرا بهمتي
مريدي إذا ما كان شرقا ومغربا أغثه إذا ما صار في أي بلدة
ولرد هذا الظلام المبين، ولمواجهة البدع والمبتدعين، قامت مدرسة محمد بن عبد الوهاب النجدي بما أوجبه عليها الدين، فأدت واجبها ولها الشكر الجزيل منا ومن الله عز وجل قبلنا وقبل غيرنا!