لا يختلف منصفان في أن نظام القضاء في الإسلام من شواهد عظمة الشريعة وأصولها، وقد انتقل مع الفتوحات الإسلامية إلى المغرب الأقصى، وعبر الأندلس، وتمكن في بيئة اجتماعية غنية بالأحداث عبر سنوات طوال، فاشتد عوده، وامتدت أغصانه، وأثمرت أزهاره، وكان له اليد البيضاء في استقرار المجتمعات وثبات الدول في الغرب الإسلامي، وتميز بخصائص جعلته صمام أمان للعدل والإحسان، وطوق نجاة في الفتن والمحن، وأمد البلاد والعباد بأسباب الحياة واستمرارها.
وكان القضاء في العهد المرابطي شامة حسن في جبين تاريخ الغرب الإسلامي، فبعد انفراط عقد الدولة الإدريسية حصل نوع من الاستفراغ السياسي في المغرب، وتميز عصر الزناتيين بالاضطراب السياسي الظاهر، ومع ذلك «فقد كان للعلوم الدينية رواج فاق بكثير ما كانت عليه في العصر الإدريسي، ولكننا نجد الكثير من الفقهاء والمثقفين يغادرون المغرب إلى إفريقية أو الأندلس» ، وكان من بين هؤلاء القاضي أبو عمران الفاسي الذي خرج من فاس -حيث تلقى العلم- إلى القيروان، وهو «مهندس الخطوط العريضة لدولة المرابطين» كما يصفه الصلابي.
لقد نال الدولة المرابطية والتي يسميها النباهي «دولة الصناهجة» من الإجحاف ومجانبة الإنصاف ما جعلني أتوقف قليلا مع بعض ما صدر من بعض المستشرقين بل وبعض المسلمين للأسف في حق هذه الدولة التي تجاوز بعضهم حد الاعتدال في تقييم فترتها حضاريا إلى وصفها بالتخلف والعبثية وقلة التحضر!
وسأجتزئ من ذلك كلمة واحدة لمحمد عبد الله عنان المؤرخ المشهور يقول فيها: «لم تكن الدولة المرابطية، سواء بالمغرب أو الأندلس، سوى دولة دينية عسكرية قبل كل شيء، ولم تكن بطبيعتها الخشنة تميل إلى الأخذ بأساليب التمدن»، وما حصل لعنان راجع في نظري إلى سببين رئيسين، التقليد، وما يحصل عادة لبعض المشارقة في تناولهم لقضايا الغرب الإسلامي من سطحية في التوصيف والتحليل لأحواله وتاريخه، ولعل طبيعة النظام القضائي في عهد المرابطين سياسيا وإداريا وثقافيا من أقوى الشواهد على خطأ الأستاذ عنان ومن قلدهم.
لقد ورث المرابطون نظاما قضائيا راقيا ومتمكنا، بخصوصياته وميزاته، وكان عدد القضاة وتوزيعهم في الأراضي التابعة لحكم الدولة المرابطية تابعا للتقسيم الإداري والسياسي للأقاليم في المغرب والأندلس ، فلكل عدوة قاضي يلقب بقاضي الجماعة، وإن كان النظام واحدا، فكان قاضي الجماعة بالأندلس في قرطبة، وممن تولاها القاضي محمد بن علي ابن حمدين التغلبي ، وامتاز قاضي العدوة المغربية بلقب زائد هو قاضي الحضرة، أي الحضرة المراكشية عاصمة الدولة، ووصف القاضي عياض منصبه هذا بـ«خلافة القضاء» كما في ترجمة القاضي عبد الرحمن بن محمد الكتامي المعروف بابن العجوز ، «ومنذ عصر المرابطين كانت زعامة القضاء راجعة لقاضي الحضرة الذي كان عضوا في مجلس الشورى» ، وكان الأقرب إلى قلب الأمير.
«وكان القضاة يخضعون لحركة انتقالية، شأنهم في ذلك شأن الولاة» ، فكان القاضي ينقل من مدينة إلى أخرى، وكانت تولية الأمير القاضي ابتداء، وقد تكون بموافقته على اقتراح لأهل البلدة أو الكورة، وهو ما يميز المرحة المرابطية، وقد تكون اختيارا بين مقترحين، خاصة أهل الأندلس، وغالبا ما يكون من نفس البلد والإقليم، ليكون أكثر معرفة وخبرة بأحوال الناس وعاداتهم، ويكون معروفا منهم، ويثقون به، ويعرفون فضله وعلمه، فيطمئنون لقضائه وأحكامه .
وقد سلك بعض أمراء المرابطين في تولية القضاة طريقة من كان قبلهم من إرغام أهل الصلاح على تولي خطة القضاء، وقد يسجنون من كان يأبى ذلك منهم، كما حصل للقاضي محمد بن عيسى التميمي، فقد سجن على إبايته من تولي قضاء فاس في ولاية علي بن يوسف بن تاشفين سنة 502 هـ .
وسار المرابطون في عزل القضاة على خلع كل من يستعمل القضاء في خصومتهم سياسيا، كعزلهم للقاضي أبي الأصبغ عيسى بن سهل قاضي غرناطة، مع بيان سبب العزل فـ«إذا أراد أمير المسلمين عزل قاض في بلد معين فعليه أن يوضح الأسباب لأهل ذلك البلد» .
وكان القاضي أحيانا يعزل بشكوى أهل بلده، فيعرض أمره على قاضي مدينة أخرى ليحكم فيه، مثل ما حصل من أهل الجزيرة الخضراء حين اشتكوا من قاضيهم ابن عبد الخالق، فكتبوا بذلك إلى علي بن يوسف بن تاشفين، فعرض الأمر على قاضي سبتة ابن منصور فحكم بعزله بعد استبانة أمره، والمسألة فيها خلاف .
وقد يبادر القاضي بطلب الانعزال لرغبة في الانقطاع والعبادة، أو استشعار قصور لضعف وفتور، مثل حال القاضي أبي محمد عبد الله الوحيدي قاضي «ريَّة» المتوفى سنة 542 هـ، فقد «استمرت ولايته مدة من نحو ثمانية عشر عاما، ثم استشعر من نفسه قصور ملالة، وفتور شاخة، فآلى إلى الزهادة.. وأكثر من الإفصاح بالاستعفاء، فترك لشأنه» .