من سلك سبيل المعاصي فقد حرِم الخيرَ كله، وأُصيب بالعقوبات العاجلة والآجلة، وهذه العقوبات تختلف، فمنها ما يقدّم ومنها ما يؤخِّرُه الله في أُخرَاه؛ وهذا هو الشقيِّ.
ومن الناس من يعمل المعصية فيظنّ أنّ الله قد غفل عنها أو تركها له؛ أو أنّه أكرمه بتركها؛ وهي تؤَخَّرُ إلى وقتٍ يكون فيه أحوج ما يكون إلى الله تعالى، فيخذُله الله في الوقت الذي يكون أحوج ما يكون إلى ربه، فبعض النّاس يظنّ أنه إذا تُركت العقوبة العاجلة على المعصية، فقد تُرِكَ العقاب على حدِّ قول القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وهذا من الظن الخاطئ، فإنّ العبد إذا عَمِلَ المعصية إمَّا أن يُعجِّلَ الله له العقوبة، وإمّا أن تؤخَّر هذه العقوبة إلى وقتٍ يكونُ فيه محتاجاً لنصرة الله تعالى له، فيُخْذل ويُتسلط عليه بسبب شؤم تلك المعصية، فيعود بالإفلاس.
وعقوبات المعاصي كثيرة لا تُعد ولا تحصى، وتتنوعُ بحسبِ عقوبة الفرد في نفسه أو المجتمعات؛ وأعظمُ ذلك أن يحولَ اللهُ سبحانه بين العبدِ وقلبِه، فتخيَّل حين يكون العبد في بقعة من بقاع الأرض، وقلبُه في بُقْعَةٍ أخرى، فكيف يكون حاله؟!
فالعاصي بعد أن ألف المعاصي حيل بينه وبين قلبه فلا يستطيع الوصول إليه، وتراه محتاجاً إلى أنّه يصل إلى قلبه فيعالجه، ولكن لأنه استمرأ المعاصي، فقد حيل بينه وبين ما يُريد.
ومن العقوبات التي تصيب العبد بسبب معصيته؛ حِرمان مناجاة الله سبحانه، وهذا من أشقّ الأمور على الأنفس، حيثُ إنَّ العبد يحتاج إلى أن يتقرّب إلى ربه، ويرغب بمناجاته، فإذا به بسبب معصيته إن جاء يدعو فإذا بقلبه وكأنّه قد غُلِّفَ بِغلاف غليظ، وإذ بدعائه باهت لا طعمَ له، وإذا عمل العمل الصالح وهو مقيم على المعصية ومستمرئٌ لها لم يجد لعمله لذة، لأنّه لم يعقد العزم على التوبة، ولم يعزم على صلاح حاله، قيل: “إن بعض أحبار بني إسرائيل قال: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؛ فقيل له: كم أُعاقِبُك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتُكَ حلاوةَ مناجاتي؟”.
فمن تأمّل جنس هذه العقوبة وجدها بالمرصاد، فالإنسان عندما يستمرئ المعصية والذنب، تجده أحياناً يريد أن يصلي براحة نفس، أو أنّه يدعو الله تعالى دعاءً صادقاً، فإذ به وبسبب معصيته لا يجد لذلك لذة.
ثم إن المرء إذا أكثر من المعاصي وطال عليه المقام، يحتاج إلى زمن طويل حتى يعودَ حاله إلى ما كان، ويحتاج إلى وقت طويل ليعالج نفسه مما أصابها، ولربما المرء الذي مسّه لهيب المعصية يجدُ أثر هذا الكلام واضحاً جلياً.
إنّ مسألة أن يناجي العبدُ ربَّه سبحانه ويدعوه بإخبات وصدق ويحس بعد ذلك بلذة في دعائه لربه وعبوديته له، هذه مسألة ليست سهلة، فبعض الناس يلهج لسانه بالذكر ولا يجد لذلك طعماً، وبعض الناس يدعو ولا يجد لذلك طعماً، وبعضهم -ربما- تنفّل بالنافلة ولا يجد لذلك طعماً، هذه هي مسألة حرمان مناجاة الله عز وجل، فتجده يحسّ أن دعاءه وعمله محجوب، كل ذلك بسبب شؤم المعصية التي أحاطت به وقيّدته حتى لا يستطيع الخلاص منها، وتراه كلما انتهى منها ما يلبث إلا أن يعود إليها من جديد، وهذا هو الخطر العظيم.
وإذا أردت أن تعرف مسألة صعوبة أن يكون العبد محجوباً عن مناجاة الله، تأمّل في نفسك حينما تأتي في آخر ساعة من نهار الجمعة فتختلي بنفسك، وتدعو الله بإخبات، وتحس بالسكينة، لأنك تعرف أن هذا الوقت هو وقت إجابة الدعاء، أو أن تأتي للمسجد يوم الجمعة مبكراً قبل أن يأتي الخطيب بساعة، فتأخذ من القرآن ومن الذكر ما استطعت، ولربما تنفّلت بالطاعات، بعد ذلك تجد طمأنينة وراحة نفسية كبيرة، بعكس ذلك هي مسألة أن يكون العبد محجوباً عن لذة مناجاة الله تعالى، لأن هذه الطاعات إنّما يطلب العبد بها مرضاة الله سبحانه، فكيف إذا لم يجد لذة هذه الطاعة؟
فهل يحجبه الله سبحانه وهو متقرّب إليه؟!
لا يُظَنّ بالله تعالى هذا الظن، ولكن إنما حُجب بسبب معصيته، ولذا لا بد أن يفتش العبد في نفسه.
قال الفضيل بن عِياض رحمه الله: “إنِّي لأعرف شؤم معصيتي في خلق زوجتي ودابتي”.
أي أنه يأمر المرأة بالأمر فلا تذعن له، ويأمر الولد فلا يطيعه، ويأمر الدابة فتأبى عليه.
فهل فكر العبد أن هذا بسبب المعصية؟
بعض الناس قد يعلّقها بنفسيّة الزوجة، وبعضهم يعيدها إلى مسألة تربية الأولاد، لكن هل فكر العبد أنه لربما فعل معصية هي التي أدت به إلى هذا الحال؟
لكن أتدرون لماذا عرف السلف الأوائل هذه الحقيقة؟
ذلك لأنهم قلّت ذنوبهم ومعاصيهم فعرفوا من أين يؤتون، ولذلك لما جاء الرجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه وقال له: إني لا أصلي الفجر! قال: “كثُرت ذنوبك فانظر من أين أُتيت”؛ فلعل بعض الناس يعلقها بعدم بذله للأسباب، فَلِمَ لا يراجع أعماله؟
لعلها كلمة خرجت لم يحسب لها العبد حساب، ولعلها نظرة أودت به إلى المهالك فحرمته هذا الأجر العظيم وهذه النعمة العظيمة، لأن الطاعات من أعظم النعم، وتوفيق الله لك إلى سلوك السبيل القويم، وإلى الإكثار من الأعمال الصالحة، ويفتح لك أبواب الخير منّة منه وفضلاً، وبعد ذلك يجزيك عليها الجزاء الحسن هذه هي النعمة؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:” إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؛ وتنجنا من النار؟ قال: فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم” رواه مسلم.
ولذا فالتوفيق للعمل الصالح منّة من الله، وإذا حرم العبد مناجاة الله والعمل الصالح فليعلم أنّ هذا بسبب ذنبه وشقوته.