هل هي بداية نهاية الحضارة الغربية؟ -الحلقة الثانية- ذ. الحسن بن الحسين العسال

إن مؤشرات إفلاس الحضارة الغربية لا تعد ولا تحصى، وكان آخرها إصرار ساركوزي على طرد الغجر من فرنسا! إلا أننا نجملها، فضلا عن المؤشر الثقافي، في أربع مؤشرات أخرى تجمع كلها على أن ما يعيشه الغرب اليوم هو انحطاط للمدنية، الذي يسبق الانهيار كما يقول الفيلسوف الألماني شبنغلر.

المؤشر الاقتصادي والعلمي
يتمثل هذا المؤشر في التخبط الذي ساد الأوساط العلمية خلال أزمة زكام الخنازير، حيث ضاع الرأي العام العالمي بين مؤيدين ومعارضين، وبين مؤكدين على نجاعة مصل “طامفلو” والمشككين في ذلك.
فإن كان سبب التخبط أهدافا غير نبيلة فالأزمة أخلاقية، وإن كان السبب صراعا بين مختصين فالأزمة علمية. وهما أمران أحلاهما مر.
ثم حلت الأزمة المالية التي أصابت بالذعر الاقتصاديات الكبرى، وساد التخبط مرة أخرى، وكثرت المخططات، وتباينت الأرقام، وانقسم المحللون؛ وضاع الرأي العام العالمي بين الحقيقة والخيال، وتضعضعت المنظومة الرأسمالية، وتم التفكير في الحل الإسلامي، بل وحتى في الحل الشيوعي.
لماذا؟
لأن الحضارة الغربية وصلت -حسب نظرية “التحدي والاستجابة” لتوينبي- إلى مرحلة عجزت فيها عن الاستجابة للتحديات التي تجابهها، وبذلك طفقت تدخل في مرحلة الانهيار.
ثم فوجئت القوة العظمى بكارثة تسرب النفط في خليج المكسيك، وساد التخبط مرة ثالثة، وعجزت التكنولوجيا والمدنية الغربية ليس عن الحد من هذه الكارثة فحسب، بل عن تحديد المدى الزمني الذي ستستغرقه، والآثار المستقبلية التي ستخلفها؛ إلى درجة أن حاكم لويزيانا شبه مكافحته بالحرب.
وقبلها ساد التخبط المطارات الغربية من جراء بركان آيسلاندا، الذي جعل الغرب مرة أخرى يفقد ثقته العلمية بنفسه، ليس لإخماد البركان، لأن هذا ضرب من المستحيل، ولكن للتنبؤ بالمدى الزمني الذي سيستغرقه فوارنه، ولحجم كثافة الدخان الذي ينفثه، كما وقف عاجزا عن تحديد حجم ونوعية الآثار التي من الممكن أن يسببها لمحركات الطائرات!
ثم العجز أمام حرائق روسيا، التي جعلت موسكو تئن تحت وطأة الدخان…
وارتباطا بالمؤشر الاقتصادي، وفي علاقة بالمؤشر الثقافي يقول محمد فاوي لقناة الجزيرة: “هذه الأزمة هزت أيضا على ما يبدو قدس أقداس الفكر الرأسمالي، ألا وهو مبدأ عدم تدخل الدولة السافر في النشاط الاقتصادي، وهو المبدأ الذي كسره إقدام الولايات المتحدة والاقتصاديات الكبرى في العالم على التدخل في الأزمة بضخ مائات المليارات في الأسواق وفي شرايين شركات ضخمة متعثرة”.
وبالمقابل يقول محمد مهاتير -رئيس وزراء ماليزيا السابق- معلقا على هذه الأزمة: “قبل أحد عشر عاما طالبوا منا ألا نتدخل -الأمريكيون والغرب- في مساعدة المؤسسات المالية في إنقاذها من الإفلاس. لكنهم اليوم يناقضون ما حاولوا فرضه علينا، ويتدخلون بشكل سافر في عملية إدارة الاقتصاد” الجزيرة.نت.

المؤشر العسكري وغياب العدالة
بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر استنفرت أمريكا العالم، وتبعها الغرب في ذلك بالصمت أو بالتواطؤ. فأنشأت السجون السرية والعلنية، وأباحت الظلم والتعذيب، باختراع مصطلحات، وسن قوانين لا تنطلي إلا على المتواطئين والمغفلين.
إلا أن هذه الاستنفار بقدر ما كشف عن الوجه القبيح والحقيقي للحضارة الغربية المتمثل في “كنعنة” الإنسان غير الأبيض لإبادته وتنحيته من الوجود -جسديا أو ثقافيا- بصدر رحب؛ بقدر ما عرى عن تراجع القوة العسكرية الغربية ابتداء من حرب لبنان والهجوم الوحشي على غزة، ومن قبلهما الإخفاقات العسكرية في العراق، والعجز والخوف من التدخل في الصومال، وأخيرا الهزائم المتتالية في مقبرة الغزاة أفغانستان، ومن ارتاب فليسأل ماكريستال، وليتفحص حمى تغيير الاستراتيجيات في كل من العراق وأفغانستان. ناهيك عن الاستعانة بالشركة المجرمة بلاك ووتر، والاستنجاد بالصحوات والأربكي، لملاحقة “فلول” القاعدة والطالبان منذ عشر سنوات..
وما يناقض مزاعم الغرب -أيضا- في أنه معقل العدالة، حصار الظلم على غزة، والذي يمثل وصمة عار في جبين العالم بأسره، وقضية اغتيال فتحي الشقاقي وقضية اغتيال المبحوح، وما بينهما من جرائم وانتهاك سيادة الدول مما لا يحصى في هذه العجالة، علاوة على جريمة الكيان الإرهابي المقترفة في المياه الدولية، والتهويل الذي يمارسه المدعو لويس مورينو أوكامبو، على السودان المستهدف من خلال نظرية المؤامرة. دون أن ننسى الضغط على إسبانيا وبلجيكا لتغيير تشريعاتهما، كي تلائم هوى الكيان الإرهابي في عشق سفك دماء الأبرياء، وكي يتم حمايته من المحاكمة، التي يلوحون بها في وجه كل من خرج عن طوعهم، وحاول الانفكاك من أغلالهم.

المؤشر الإعلامي وحرية التعبير
قال وزير العدل الفرنسي جاك طوبون (Jack tobon): “إنَّ الإنترنت بالوضع الحالي شكل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في خطر”.
هذه الحضارة “العتيدة” أصبحت في خطر، والسبب أحد ركائزها ألا وهو حرية التعبير، التي أصبحت تشكل استعمارا في نظر الغرب!
وبما أن الغرب يعتبر أن: “قراءة الصحف هي لون من ألوان صلاة الصبح” كما قال الفيلسوف الذائع الصيت هيغل؛ فقد تمت محاربة الصوت الإسلامي عن طريق التضييق على الفضائيات والضغط على أصحاب الأقمار الاصطناعية لإغلاقها!
فكان أن تعرضت قناة الرحمة الفضائية الإسلامية التي يترأسها الداعية السلفي المعروف الشيخ محمد حسان للإغلاق بعد شكوى من مجلس الدولة الفرنسي بأنها تعادي “السامية” (1)
وبعد أسابيع قليلة من أزمة قناة الرحمة حلت أزمة قناة الأقصى التي تبث من غزة، والتي تم توقيف بثها عبر القمر الصناعي اليوتل سات، من طرف مجلس البث الفرنسي وذلك لذرائع واهية يتذرع بها المجلس الفرنسي وأبرزها أن فضائية الأقصى تحرض على الكراهية من خلفية دينية (2).
وقبل هذا كان هناك مشروع قرار للكونغرس الأمريكي يدعو مؤسسات الأقمار الصناعية إلى عدم التعاقد مع القنوات التليفزيونية التي يعتبرها داعية إلى “الإرهاب”، ويهدد بفرض عقوبات على هذه الأقمار التي تبث قنوات فضائية تحرض على “الإرهاب” وتدعو إلى كراهية الآخر.
فعلام يدل كل هذا الارتباك، وهذا النفير للتدخل في خصوصيات الآخر إن لم يكن يدل على أن الحضارة الغربية طفقت تتآكل من الداخل، ولم تجد لها من مخرج إلا تعليق أزماتها على هذا الآخر المتمثل في الإسلام، عوض إعادة إحياء قيمها والمبادئ التي قامت عليها: الحرية والإخاء والمساواة.

المؤشر الفلسفي
ما يحاول الغرب أن يشيعه عن نفسه، ويخدر به عقول المغفلين، وتنتشي به أذهان المتواطئين من بني جلدتنا، وأخص بالذكر بني علمان؛ هو أنه يؤمن كما آمن الفيلسوف الألماني كنط بأن: “لكل إنسان، ولمجرد كونه إنسانا، حقوقا في الكرامة والسيادة يتساوى بها مع جميع الناس. والذي ينكر هذا المبدأ ينكر أخلاقيته ويتخلى بالتالي عن إنسانيته” (3).
إلا أن الذي لا يحتاج إلى دليل كالشمس في رابعة النهار هو أن الحضارة الغربية أصبحت تجمع بين مذهب “النفعية” ومذهب “الأنانية”، لتخرج بمذهب في غاية الوحشية.
فمذهب النفعية “يلزم صاحبه بالتخلي عن مبادئ أو قيم أخلاقية مهمة كالعدالة أو الحرية، عندما تتعارض هذه المبادئ أو القيم مع مبدأ النفعية”(4) وهذا ما يطبقه الغرب بحذافيره، وعلى رأسه أمريكا، خصوصا مع المسلمين.
أما مذهب الأنانية فمن شأن صاحبه أن “يعطي لمصلحته أولوية مطلقة، ولكنه يدرك فائدة التعاون مع الآخرين.. ولكن الدافع وراء كل أفعاله هو الرغبة في خدمة مصالحه الخاصة، وتحقيق رغباته الأنانية ولاشيء آخر”(5).
إذن من خلال الفلسفة التي يتبناها الغرب حقيقة وواقعا بعيدا عن كل الشعارات المرفوعة، يتبين أن حضارته تواري بذور فنائها بين جنباتها، لأنها تعيش لذاتها، في إقصاء تام للآخر، ولأنها تحمل قيما ضد القيم والأخلاق، أي أنها حضارة نفعية أنانية استهلاكية، تنشد المتعة حتى النخاع، وتركز على التكنلوجيا للغوص في الشهوات وسحق الآخر.
يقول (ادغار موران): “إن سيادة التكنولوجيا تدمر اليوم كل خصوصية حضارية وبهذا فقد أنتج الغرب، ولأول مرة في التاريخ، مقومات فنائه بسبب الانحلال والضعف وبمعنى آخر بسبب (إرادة الهدم).. حيث سببت المدنية الصناعية اجتثاثاً حضارياً هو رديف للمغامرة والموت”.
الحضارة الغربية
عجوز ترجى أن تكون فتية وقد لحب(6) الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعة بيتها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهـــر

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- المقتصرة على اليهود دون العرب في مناقضة تامة للحقائق التاريخية.
2- أما ممارسات اليهود للكراهية والعنصرية قولا وفعلا في فلسطين السليبة -وباسم الدين- فأمر مباح لا غبار عليه!
3- “فلسفة الأخلاق عند كنط” للدكتور وضاح نصر/مجلة الفكر العربي/العدد الثامن والأربعون/1987.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- أنحله الكبر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *