مقدمة
سعت القمة الخليجية-الإسلامية-الأميركية في الرياض، في مايو 2017، إلى تشكيل حلف جديد ضد إيران وحركات الإسلام السياسي ضمن نسق مكافحة الإرهاب والتطرف، لكنها مهَّدت لتصدع البيت الخليجي وتضييق الخناق على أحد أضلاعه الست وبالتالي احتضار مجلس التعاون الخليجي.
ويكشف تحليل موقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من دول الخليج ثلاث مفارقات أساسية تنم عن ثنائيات غير متجانسة في محاولة الجمع بين خطابي صراع الحضارات وتعايش الحضارات، وأيضًا انقلابه على نفسه من انتقاد السعودية طيلة ثلاثة عقود إلى تأييد موقفها الراهن بفرض حصار بري وجوي على قطر.
ويتناول التقرير أيضًا بعض الأخطاء التي كرستها قمة الرياض ضمنيًّا من حيث بنية التفكير التي سادت قاعة الاجتماع، وكيف أصبحت مكافحة الإرهاب أداة طيِّعة للاستغلال السياسي والأيديولوجي في سير العلاقات الدولية.
تهم الإرهاب الجزافية
أثار السجال الدائر حول موقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الأزمة الجديدة بين دول خليجية تساؤلات ملحَّة حول مقومات سياسته الخارجية سواء في بعدها الاقتصادي من حيث خدمة الأهداف القومية الاقتصادية برفع مستوى الاستثمارات وصفقات الأسلحة الخليجية في الولايات المتحدة بأكثر من أربعمائة مليار دولار إضافية، أو في مراميها الأمنية والاستراتيجية بشأن مكافحة الإرهاب ضمن حملته الكبرى الجارية ضد تنظيم الدولة.
بيد أن تغريدته، في السادس من يونيو 2017، التي قال فيها: “خلال رحلتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط، ذكرت أنه لا يمكن أن يكون هناك تمويل للأيديولوجية الراديكالية؛ فأشار القادة إلى قطر!” أثارت تأويلات متباينة حول مصادر تمويل الجماعات الإسلامية المقاتلة في العقود الثلاثة الأخيرة وهويات منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على الولايات المتحدة.
وشكَّل هذا الموقف في البيت الأبيض ما بدا تناقضًا مع الخط الدبلوماسي الذي تبنَّاه وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، بضرورة احتواء وتسوية الخلاف الخليجي، فيما حذَّر من تأثيره السلبي على الحملة ضد تنظيم الدولة. ويقول أنتوني بلينكن، نائب وزير الخارجية في حكومة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما: إن ترجيح ترامب الكفة لصالح التحالف الثلاثي ضد قطر ينطوي على “مخاطر تعميق خلاف يمكن أن يقوِّض الكفاح ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وهو يسلِّط الضوء على هشاشة تحالف الشرق الأوسط المقترح الذي وصفه السيد ترامب بأنه الإنجاز الرئيسي لرحلته الخارجية الأولى”(1).
وبعد مرور أسبوعين من نشوب الخلاف الخليجي، وجهت وزارة الخارجية الأميركية انتقادات إلى التحالف السعودي-الإماراتي-البحريني بشأن عدم تقديم ما يبرر قرار فرضهم الحصار على قطر. وقالت المتحدثة باسم الوزارة، هيذر نوارت: “نحن مندهشون من أن دول الخليج لم تقدم إلى القطريين ولا إلى الجمهور تفاصيل ادعاءاتهم ضد قطر…وكلما مَرَّ الوقت، يزداد الشك حول الإجراءات التي اتخذتها السعودية والإمارات”(2)، بيد أنها أضافت قائلة: “في هذه المرحلة، لدي سؤال واحد بسيط: هل كانت إجراءات الحصار تُعزَى إلى قلقهم بشأن دعم قطر المزعوم للإرهاب، أم أنها كانت بشأن الشكاوى التي طال أمدها بين دول مجلس التعاون الخليجي التي تتقاسم مصالح ومنافسات مشتركة”(3).
تأججت معركة السرديات والسرديات المضادة حول سياسات قطر على المستوى الإقليمي وعدم مجاراتها لدعوات السعودية والإمارات والبحرين لتكريس مزيد من العدائية ضد إيران بتزكية من ترامب ووضع شتى الحركات السياسية ضمن خانة الإرهاب، فضلًا عن نمو رأسمالها السياسي في الوساطة الدولية بالإفراج عن عدد من معتقلي غوانتنامو من حركة طلبان، ومدى تأثير خطابها الإعلامي من خلال الجزيرة على الرأي العام العربي قبل وخلال انتفاضات ما سُمِّي بالربيع العربي.
انشطرت الآراء إلى فريقين، فريق لم يتشبَّع بسردية الحملة التي استهدفت دَمْغَ سمعة قطر بتهم تأييد الإرهاب، ويتساءل حول مدى منطقية فرض العزلة البرية والجوية على قطر ويعتبرها إجراءً يتعارض مع القانون الدولي الإنساني. وقد ندَّدت بذلك الحصار عدَّة مظاهرات خرجت إلى الشوارع في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى.
في المقابل، يعتقد الفريق المؤيد لدول الحصار أن الموقف السعودي-الإماراتي-البحريني هو الإجراء الأنجع في حمل الدوحة على التخلي عن مواقفها واختياراتها الاستراتيجية إزاء إيران وثنيها عن دعم بعض حركات الإسلام السياسي ومنها حماس والإخوان المسلمون. ويقول أنتوني بلينكن: إن دعم السيد ترامب غير المشروط للسعوديين خلال زيارته الرياض “لم يكن ليشجعهم على قطع العلاقات فحسب، بل وأيضًا على فرض حصار اقتصادي على قطر”(4).
الملاحَظ أن محاولة دول الحصار وحلفائها ثني قطر عن اتباع موقفها من إيران وحركات الإسلام السياسي تنم عن مفارقة لافتة في صيرورة السياسات الخليجية في العقود الأخيرة. وكما يقول ستيف كوك من المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية: “هذه هي طبيعة الشرق الأوسط؛ إذ إن من الصواب القول: إن القطريين شركاء صعبو المراس ويتبعون سياسات غير مواتية. غير أن هذا لا يجعلهم مختلفين عن أيٍّ من حلفاء واشنطن الآخرين في الشرق الأوسط. فعلى الذين يعيشون في بيوت زجاجية ألا يرموا غيرهم بالحجارة، إلا أن هذا ما يحدث بالضبط في الشرق الأوسط”(5).
ماذا حدث في قمة الرياض؟
عند تحليل اجتماع القمة بين الرئيس ترامب وقادة خمسين دولة عربية وإسلامية في الرياض، تبرز ثلاث مفارقات مثيرة وليدة المرحلة الجديدة في العلاقة بين ترامب والعواصم الخليجية، والتي وجَّه إليها عدة انتقادات خلال حملته الانتخابية في محاولة لاستمالة أصوات اليمين المتطرف والجماعات الإنجليكية في الولايات المتحدة.
1- بين صدام الحضارات وتعايش الحضارات
على خلاف أي مرشح سابق في انتخابات الرئاسة الأميركية، اتسمت حملة ترامب بالجموح في تكريس التشكيك والريبة إزاء نوايا المسلمين ونشر عدائية غير عقلانية بين الإسلام والغرب؛ فقد ردَّد أمام مناصريه في عدة تجمعات انتخابية مقولته الشهيرة: “الإسلام يكرهنا”، وأن الإسلام ينطوي على “كراهية هائلة” للغرب. ودعا لفرض طوق أمني على المسلمين إما بمراقبة المساجد أو إغلاق بعضها.
وسعى ترامب بهذه الاتهامات الشمولية لأكثر من مليار مسلم في العالم إلى تعميق الهوة بين “الأنا” الإيجابي و”الآخر” السلبي. وحال دخوله البيت الابيض، سارع باتخاذ قراريْن رئاسييْن لمنع المسلمين من ست دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة “حتى يتسنَّى للمسؤولين الحكوميين التعامل مع معضلتي التطرف والإرهاب” على حدِّ قوله.
غير أن جُلَّ المراقبين أصيبوا بالدهشة عندما ظهر ترامب في قمة الرياض وهو يقول: “هذه ليست معركة بين مختلف الديانات أو الطوائف المختلفة أو الحضارات المختلفة”، وأنه يحمل “رسالة صداقة وأمل إلى الأمة التي ترعى اثنين من المواقع المقدسة في الديانة الإسلامية”. ويواجه الكثيرون صعوبة في فهم ما يبدو تناقضًا غير منطقي وقدرة ترامب على الجمع بين سرديات معادية وأخرى منفتحة على الإسلام، لعل سببها حرصه على “مصلحة أميركا أولًا”؛ فاحتاج إلى مرونة كافية للتذبذب حسب الحاجة عندما يكون داعية لصدام الحضارات وداعية لتعايش الحضارات في آن واحد.
يبدو أن القادة المسلمين الخمسين على كثرة عددهم لم يفكِّروا في استغلال وجود ترامب في الرياض لمساءلته بتحديد حقيقة موقفه النهائي من المسلمين وعلاقة الإسلام بالغرب. وبدلًا من ذلك، انساقوا وراء رغبته في أن يسهموا في تبني مفهوم “الإرهاب الإسلامي الراديكالي”. وأضفى ترامب صيغة ما اعتبره “حدثًا تاريخيًّا” على افتتاح المركز العالمي لمكافحة الأيديولوجية المتطرفة في هذا “الجزء المركزي من العالم الإسلامي”، وأن المركز الجديد “يمثِّل إعلانًا واضحًا بأن على البلدان ذات الأغلبية المسلمة أن تأخذ زمام المبادرة في مكافحة التطرف”.
2- ترامب والسعودية: تفاهم بعد خصومة
يستمر السجال في الولايات المتحدة حول موقف ترامب من السعودية، فيما يتهمه عدد من المحللين بأنه قلب موقفه مئة وثمانين درجة إزاء أقوى دولة خليجية بسبب ثقلها المالي وطلبات صفقات الأسلحة المتطورة؛ ففي السابع عشر من فبراير/شباط 2016، صرَّح ترامب مرتين في اليوم ذاته بأن مفجري مركز التجارة العالمي في نيويورك لم يكونوا عراقيين، بل سعوديين، “ينبغي التركيز على السعودية وافتحوا الوثائق”(6). وكان الكونغرس الأميركي وقتها ينظر في استصدار مشروع قانون معاقبة الدول المتورطة في الإرهاب المعروف بـ”الجاستا” في إشارة ضمنية إلى السعودية.
وقبل عام بالتحديد، يونيو/حزيران 2016، كتب ترامب يقول: إن “السعودية وعددًا آخر من الدول التي قدمت مبالغ مالية ضخمة إلى مؤسسة كلينتون تريد معاملة النساء بمثابة رقيق وقتل المثليين. وينبغي أن تعيد كلينتون جميع الأموال إلى تلك الدول”. وفي كتابه بعنوان “وقت الصرامة: جعل أميركا عظيمة من جديد” الصادر عام 2011، وصف السعودية بأنها “أكبر ممول للإرهاب في العالم، وأنها تطغى على أموال بترولنا، أموالنا الخاصة، لتمويل الإرهابيين الذين يسعون إلى تدمير شعبنا بينما يعتمد السعوديون علينا لحمايتهم”(7).
وبلازمة الجمع بين الأمر ونقيضه مرة أخرى، تحدث ترامب في خطاب الرياض عن أحدث صفقة بمئة وعشرة مليارات دولار قائلًا: “إننا سنضمن مساعدة أصدقائنا السعوديين في الحصول على صفقة جيدة من كبريات شركات الأسلحة الدفاعية الأميركية. وستساعد هذه الاتفاقية الجيش السعودي على القيام بدور أكبر في العمليات الأمنية. وقد بدأنا أيضًا مناقشات مع العديد من البلدان المشاركة اليوم بشأن تقوية الشراكات وتشكيل شراكات جديدة لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وخارجها”.
وتتجاوز هذه الثنائية غير المتجانسة في خطاب ترامب القدرة على إيجاد تبرير منطقي لها خارج نطاق المصالح واعتبارات العائد المادي. ويلاحظ فريد زكريا، المعلِّق في صحيفة واشنطن بوست، أن رحلة الرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط أوضحت مرة أخرى “كيف تمكَّنت الدولة الرئيسية في نشر هذا الإرهاب، وهي المملكة العربية السعودية، من التهرب من أية مسؤولية عنه. في الواقع، منح ترامب السعودية حرية المرور وأطلق يدها الحرة في المنطقة”(8).
3- معضلة التفكير الجماعي المتطابق
ما يحدث عادة عند انجراف الخلافات إلى مستوى التصعيد وتأجج الانطباعات السلبية وتشابك مواقف الأطراف كما حدث لدى التحالف الثلاثي ضد قطر، هو تغلُّب الرؤية السوداوية وصناعة “الآخر” كغريب ودخيل بعد أن كان حتى الأمس القريب جزءًا من الذات الجماعية داخل مجلس التعاون الخليجي. وعندما ينتشر التفكير الجماعي المتطابق بين بعض العواصم مثل (أبو ظبي) والرياض والمنامة، يصبح من السهل شَيْطَنَة “الآخر” والاجتهاد في إيجاد شتى المسوغات والتبريرات من أجل النيل من سمعته والتهديد بنسف قدراته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. وللأسف، يطغى منطق الواقعية السياسية ولغة المصالح مما يفسر هذه الانشطارية الغائرة في الجسم الخليجي حاليًّا.
يبدو أن معضلة التفكير الجماعي المتطابق هيمنت على الرئيس ترامب والقادة الخليجيين خلال قمة الرياض على ثلاثة مستويات رئيسية:
شَيْطَنَة إيران.
الالتفاف حول مشروع مكافحة الإرهاب قبل الاتفاق على مفهوم الإرهاب أولًا.
تضييق الخناق على قطر.
حسب أدوات التحليل في علم النفس الاجتماعي، يمكن تعريف هذه المعضلة بأنها ظاهرة نفسية تحدث بين مجموعة من الأفراد الراغبين في الانسجام أو التطابق في الرأي ضمن المجموعة، ويؤدي إلى نتيجة غير منطقية أو اختلال في صنع القرار.
وينطوي الميل نحو التفكير الجماعي المتطابق على بعض المخاطر بإقرار ما يبدو توافقًا بالإجماع. ويقول وليام وايت: “إننا لا نتحدث عن مجرد توافق غريزي، بل عمَّا يشكل في نهاية المطاف فشلًا دائمًا للبشرية. ما نتحدث عنه هو توافق منطقي كفلسفة منفتحة وواضحة تؤكد أن قيم المجموعة ليست ملائمة فحسب ولكن صحيحة وجيدة أيضًا”(9).
وكما ذكرتُ في دراسة سابقة، أدت هيمنة التفكير الجماعي المتطابق إلى “الإفراط في الاستثمار في إشباع الأنا لدى ترامب وسياساته في المستقبل باستثناء قطر. ويبدو أن الخوف المتبادل بين إيران والإسلام السياسي، الذي ينشط ضمن إطار السعي لمكافحة الإرهاب بصرامة، قد أغلق طريق التفكير النقدي حول جدوى وعد ترامب بالقضاء على تنظيم الدولة وقوى التطرف الأخرى في المنطقة. وهذا التوجه يثير السؤال حول النتيجة الحقيقية للحرب على الإرهاب التي دامت ستة عشر عامًا، والتي بدأتها إدارة بوش/تشيني عام 2001، من خلال منظور استخدام القوة العسكرية في صياغة نهج دقيق تجاه العنف السياسي الآن من قبل إدارة ترامب”(10).
مفهوم الإرهاب بين الرخوية والمطاطية
نبَّه ترامب في خطابه في قمة الرياض إلى مخاطر انتشار العمليات الإرهابية وتوغل العنف في المجتمعات المسالمة، ووجَّه نداءه إلى القادة المسلمين قائلًا: “إذا لم نقف في إدانة موحدة لعمليات القتل هذه، فلن تتم محاكمتنا من قبل شعوبنا ومن قبل التاريخ فحسب، بل سيحاكمنا الله أيضًا”. غير أن هذا الطرح الشمولي لكافة أصناف العنف السياسي في منطقة يحكمها الاحتلال والاستبداد والحروب الأهلية وانتهاك كرامة الشعوب ينزلق إلى دَمْغ كافة النشطاء والحركات والهيئات بأنها من طراز القاعدة أو تنظيم الدولة.
إن التعامل مع تحليل سلوكيات العنف وغاياته، يكشف مئة وتسعة من التعريفات المتداولة في التعامل مع الإرهاب لدى الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وغيرها من الهيئات الدولية، بل تتباين تعريفات الإرهاب حتى بين وزارة الخارجية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وبقية الهيئات الفيدرالية داخل الولايات المتحدة ذاتها.
يقول أليكس شميد وألربت يونغمان، اللذان أصدرا دراسة عن الأنساق المتداولة في التنظير لمفهوم الإرهاب: إنه يمثِّل في بعض الأحيان “الأداة الوحيدة وأحيانًا واحدة من عدة أدوات لاستراتيجية سياسية. وقد تم تعريف الحرب على أنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى، والإرهاب أيضًا يعتبر أحيانًا استمرارًا للسياسة. ويتم وضعه بالتالي ضمنيًّا أيضًا في سياقات مختلفة مثل الجريمة والسياسة والحرب والدعاية والدِّين، تبعًا للإطار الذي يختاره المرء”(11).
ومن خلال دراسة عددية للعناصر التي تتشاطرها تلك التعريفات، يأتي العنف في المقام الأول بنسبة 83.5 في المئة، والعوامل السياسية (65?)، ونشر الذعر (51?)، والتهديدات (47?)، والآثار النفسية وردود الفعل المتوقعة (41.5?)، والتناقض بين الأهداف والضحايا (37.5?)، والعمل المتعمد والمخطط والمنظَّم (32?)، وأساليب القتال والاستراتيجية والتكتيكات (30.5?).
في الوقت ذاته، يشدِّد البعض على غياب مفهوم الإرهاب خارج نطاق العلاقة بين فعل العنف ومن قام به. ويقول غلين غيرنوالد: إن الإرهاب هو اللفظ الوحيد الذي لا معنى له والأكثر تلاعبًا به في المعجم السياسي الأميركي. ولا توجد علاقة لهذا المصطلح حقيقة مع الفعل ذاته، بل كل ما يحدده هوية الفاعل، ولاسيما هويته الدينية. ومصطلح الإرهابي يلعب دورًا محوريًّا في نقاشاتنا السياسية”(12).
ووفقًا لليف وينار، رئيس قسم دراسات الفلسفة والقانون في كينغز كوليج لندن، والذي قام بتحليل معطيات الإرهاب العالمي، فإن أكثر من نسبة 94 في المئة من عمليات القتل التي قام بها إرهابيون من المسلمين منذ عام 2001 كانت على أيدي تنظيم الدولة والقاعدة وجماعات جهادية سُنيَّة، ويضيف: إن كل هجوم إرهابي وقع في الغرب كانت له علاقة مع السعودية، فيما لم يرتبط أي منها بإيران”(13).
ويبدو أن قمة الرياض أسهمت في تطبيع خطاب “الإرهاب الإسلامي الراديكالي” بالنسبة لترامب وأيضًا تطبيع المفهوم السعودي للإرهاب في المقابل. ويقول فريد زكريا: إن ترامب تبنَّى الخط السعودي بشأن الإرهاب مما يسحب اللوم عن المملكة ويعيد توجيهه نحو إيران”(14).
كان وجود ترامب في قمة الرياض مؤثِّرًا في تشديد إعادة تركيب صورة العدو الإيراني المشترك في المنطقة، وهم لا يزالون يشعرون بخيبة الأمل من توصل حكومة أوباما وخمس عواصم غربية أخرى إلى الاتفاق النووي مع طهران في منتصف يونيو/حزيران عام 2015.
الإرهاب: أداة الميكيافيلية الجديدة
قال ترامب في قمة الرياض إن حكومته تعتمد “واقعية ذات مبادئ متجذرة في القيم المشتركة والمصالح المشتركة”. بيد أن هذه الواقعية المبدئية لم تجتز أول اختبار لها بفعل الأزمة الخليجية الراهنة، عندما قرر تأييد السعوديين وحلفائهم الخليجيين في فرض حصار سياسي ودبلوماسي واقتصادي على بلد يستورد أغلب حاجياته الغذائية من الخارج بطريق البر أساسًا الذي تتحكم فيه السعودية. وبدا الفرق الشاسع إلى حدِّ التناقض بين موقفه القائم على التنسيق الأميركي-السعودي باسم سياسة المصالح، وموقف وزير الخارجية، تيلرسون، الذي وإن كان يراعي مصلحه بلاده، إلا أنه لم يبتعد عن قواعد سياسة القيم في التعامل مع أزمة سياسية قد تتحول إلى أزمة إنسانية إذا طال أمد الحصار.
قد يقول البعض: إن موقف واشنطن يعكس تخبطًا سياسيًّا أو حيرة دبلوماسية بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، لكن لا يمكن مسايرة هذا التحليل لسبب أساسي هو أن التناقض بين تصريحات ترامب وتصريحات تيلرسون وماتيس مقصود حسب استراتيجية البيت الأبيض. ولا غرابة في أن يكون هذا توزيع أدوار: ترامب يكوي وتيلرسون يربِّت على الخدِّ القطري؛ إذ يريد ترامب الاحتفاظ بهامش المناورة وأن يجعل أصدقاء أميركا وخصومها في حالة ترقب دائم، بل وأن يكون الرئيسَ الذي يصعب التكهن بخطوته المقبلة.
والمثير أن اعتماد أسلوب التصريحات المتناقضة بين البيت الأبيض وشتى الوزارات يشكِّل محاولة لجمع المجد السياسي والمادي من كل أطرافه وتوسيع نطاق العائد من أزمة الخليج. ويحاول ترامب إيهام كل طرف في الخليج بأنه “يقف في صفه”. وقد يعتقد السعوديون أنه صديقهم الراهن الذي سيحمي حمى النفوذ السعودي ويحافظ على التحالف التقليدي بين واشنطن والرياض. في الوقت ذاته، قد يساور القطريين الاعتقاد بأنه حليفهم الرئيسي من خلال استمرار صفقات الأسلحة والنقاط الإيجابية في موقفي تيلرسون وماتيس.
باختصار، تشكِّل سياسة ترامب إزاء الخليج تكريسًا للواقعية السياسية بروح ميكيافيلية جديدة وهي أن دفاعه عن مصلحة أميركا من شأنه أن يبرِّر أي تناقضات غير منطقية أو خروج عن أعراف العلاقات الدولية. وهو بذلك يصر على إضافة فصل جديد عن نظرية القيمة والعائد المادي في التعامل بين الدول تحت شعار القومية الاقتصادية الأميركية إلى أدبيات الواقعية السياسية، فضلًا عن إسهامات المحافظين الجدد في العقدين الأخيرين.
وعلى هذا المنوال، يصبح خطاب “مكافحة الإرهاب” أحد أدوات المدرسة الترامبية الجديدة في الواقعية السياسية. وفضلًا عن القطيعة الأصلية بين خليج عربي وخليج فارسي بفعل العداء الأميركي-الإيراني منذ عام 1979 وتكريس الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، تكرِّس الأزمة الراهنة نواة مواجهة أو صدام جديد داخل البيت الخليجي بين سُنَّة وسُنَّة بذريعة ضرورة حشد الهمم لمكافحة الإرهاب حسب مقاييس ترامب وليس حسب مقاييس العواصم الخليجية ذاتها.
ما أسعدَ صمويل هانتنغتون وهو يبتسم في قبره! ومَنْ أكثر نشوةً من المحافظين الجدد ودعاة اليمين المتطرف عندما يصب الخليج أمواله في جيوب الشركات ومصانع الأسلحة الأميركية من خلال لعب ورقة الخوف من إيران ومكافحة الإرهاب.
______________________________________
د. محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسين في واشنطن وعضو لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة.
للاطلاع على ملف: أبعاد الأزمة الخليجية ومآلاتها (متابعة تحليلية لدينامياتها وآفاقها) كاملا يرجى الضغط هنا.
مراجع
1- Blinken, Antony. J, “President Trump’s Arab Alliance Is a Mirage”, The New York Times, 19 June 2017.
2- Gardiner, Harris, “State Dept. Lashes Out at Gulf Countries Over Qatar Embargo”, The New York Times, 20 June 2017.
3- Ibid.
4- Blinken, “President Trump’s Arab Alliance Is a Mirage”, op. cit.
5- Tharoor, Ishaan, “The crisis over Qatar highlights Trump’s foreign policy confusion”, The Washington Post, 15 June 2017.
https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2017/06/15/the-crisis-over-qatar-highlights-trumps-foreign-policy-confusion/?utm_term=.29733fbf593f
6- Pffeifer, Alex, “Trump Signs Arms Deal And Visits Saudis After Saying They Fund Terror And Were Behind 9/11”, The Daily Caller, 19 May 2017.
http://dailycaller.com/2017/05/19/trump-signs-arms-deal-and-visits-saudis-after-saying-they-fund-terror-and-were-behind-911/
7- Trump, Donald, Time to Get Tough: Make America Great Again!” Regnery Publishing (Updated edition), 2015.
8- Zakaria, Fareed, “How Saudi Arabia played Donald Trump”, The Washington Post, 25 May 2017.
https://www.washingtonpost.com/opinions/global-opinions/saudi-arabia-just-played-donald-trump/2017/05/25/d0932702-4184-11e7-8c25-44d09ff5a4a8_story.html?utm_term=.771a62e647d6
9- Whyte, W. H., Jr. “Groupthink”, Fortune, March 1952, p. 114–117.
10- Cherkaoui, Mohammed, “The ‘Trump factor’ and the implosion of the Gulf union”, Aljazeera English, 10 June 2017.
http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2017/06/trump-factor-implosion-gulf-union-170610064645861.html
11- Alex P. Schmid, Frameworks for Conceptualizing Terrorism, Terrorism and Political Violence, Vol.16, No.2 (Summer 2004), p.197-221.
12- Greenwald, Glenn, “Terrorism: the most meaningless and manipulated word”, Salon, 19 February 2010.
http://www.salon.com/2010/02/19/terrorism_19/
13- Zakaria, Fareed, “How Saudi Arabia played Donald Trump”, op, cit.
14- Ibid.