دور الحضارة الإسلامية في النهضة الأوربية  أ. عبد الكريم العساتي*

من الغريب أن تجد بين المسلمين من ينكر أثر الحضارة الإسلامية على أوروبا تماشيا مع بعض علماء أوربا، وهذا من الضياع الذي حصل لهم، والتشرذم الذي لحق بهم، جراء متابعة بعض مثقفي ومفكري المسلمين والعرب لما ينتج عن علماء أوربا من ثقافة وأقوال وأفكار تلقفوها وسوقوا لها دون وعي منهم بالحضارة الإسلامية وإشعاعها، ومدى تأثيرها في الحضارات الأخرى كالحضارة الأوربية على وجه الخصوص.

وهذا يسوقنا إلى طرح السؤال التالي: إلى أي حد أثرت الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوربية؟

عاشت أوروبا في القرون الوسطى انحطاطا ما بعده انحطاط بسبب الكنيسة التي أحكمت قبضتها الحديدية ورفضت أدنى تغيير بل وأكثر من ذلك فعلت أنها حرمت الاجتهاد وأوصدت بابه، معتبرة الاجتهاد من مهام المؤسسة الكنسية ولا يحق لأحد ذلك سواها، وكان كل من جاء بنظرية خالف فيها الكنيسة أعدمته كما فعلت مع “يان هوس” و”جيرانو برونو” والذي نفى مركزية الأرض بالنسبة للكون.

في المقابل كان المسلمون يعيشون ازدهارا فكريا وعلميا واقتصاديا -في هذه الحقبة بالذات- وكانت الأندلس اشعاعا حضاريا وقطبا علميا يجذب ابناء الأوروبيين للتعلم في شكل بعثات طلابية؛ وكان في مقدمة هذه البعثات الراهب الفرنسي (جربرت دي أورياك) الذي وفد إلى الأندلس في عصر الخليفة الحكم المستنصر (350-366هـ/961-976م)، ودرس على أيدي العلماء المسلمين الرياضيات والفلك والكيمياء، وحينما عاد إلى وطنه بعد أن بلغ من العلم مبلغا خيّل لعامة فرنسا إذ ذاك أنه ساحر([1]) من كثرة علمه ودهائه.

ومن خلال هذا الاحتكاك وجدوا أن المسلمين يتمتعون بحرية التعبير؛ وحرية الاجتهاد عندهم مفتوحة على مصرعيها لكل من يمتلك أدواته.

وعايشوا حوارات ابن حزم والباجي وكذا ابن النغريلة وبن رشد في أمور العقيدة والدين عموما وانبهروا بهم. وأقول بأن هذه الحضارة العظيمة التي نتحدث عنها؛ وهي الحضارة الإسلامية وصلت إلى أوجها وكمالها بسبب الحوار والجدال الذي كان بين علمائها الأمر الذي تمخض عنه ولادة فكر وعلوم يكتسي صبغة إسلامية، كما هو الشأن للفلسفة التي رسمت معالمها بسبب الحوار والجدال الذي كان بين الآكوريين([2]).

بالإضافة إلى كون المجتمع الإسلامي في هذه العصور مجتمع الحريات، فهو مجتمع التسامح أيضا، حيث أن المسلمين حرصوا على الوفاء بعهودهم لأهل الذمة حتى في الحالات التي كان يبدو للمسلمين أنهم خدعوا فيها، وقد قال الرازي فمضوا (المسلمون) على الوفاء لهم وكان الوفاء عادتهم”([3]).

ومن هنا طرح الأوربيون السؤال التالي: لماذا تقدم المسلمون وتخلف الأوربيون؟

وفي أثناء الإجابة عن السؤال الذي طرحوه نبغ عندهم الوعي بمدى ظلم الكنيسة للإنسان والعلم، وفي ظل هذا ظهر من حاول التمرد على الكنيسة كـ”يان هوس” الذي انتقد الكنيسة في منهجها و”كبرنيك” الذي خالف هو الآخر المؤسسة الكنسية في اعتقادها بمركزية الأرض بالنسبة للكون… إلى أن جاء مارتن لوثر الذي شرب مبادئ الإسلام وحاول إدخالها إلى الكنيسة وذلك بتقديم عريضة تحوي خمسة وتسعون بندا جلها مأخوذ من تعاليم الإسلام، وكان ذلك سببا في تأسيسه كنيسة تؤمن بالحرية الفكرية وحرية الاجتهاد، هذا ما مهد الأرضية لفكر الأنوار وفلاسفته.

         قد يقول قائل: إن الحضارة الأوربية مبنية على أساس الفلسفة الإغريقية، ونقول بأن لولا الحضارة العربية الإسلامية لاندثرت الفلسفة اليونانية على أخرها، لأنهم ترجموها وحافظوا عليها بل وطوروها كما هو الحال مع الرازي وابن سينا وابن رشد.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يقول أحدهم أن الحضارة الأوربية قامت على أساس اقتصادي وذلك بعد اكتشافات الجغرافية واكتشاف العالم الجديد (أمريكا) على وجه التحديد.
ونقول لهم: أن الأوربيين في أثناء بحثهم عن نقاط القوة لدى المسلمين وجدوا بأن من بين الأمور التي أعطت الإسلام قوة الفتوحات التي قاموا بها، والتي كللت بالنجاح وأعطت قوة ودافعية لنشر دينهم وتقوية اقتصادهم.
وأيضا من الأمور التي اطلعوا عليها ورسخت في أذهانهم فكرة الاستكشافات ما يسمى بأدب الرحلة عند العرب الذي اشتهر به أحمد بن ماجد الملقب بـ”أسد البحار” وابن بطوطة وكانت هذه الرحالات سببا في قوة اقتصادهم. وقد قال فيهم الشاعر:
ملأنــا الــــبر حـــتى ضـاق عنــا  —  وظهر البـــحر نملـــوه ســفــــنــا
ومن هنا تبلورت عندهم فكرة الاستكشافات واكتشفوا مضيق ماجلان نسبة إلى “ماجلان” والعالم الجديد (أمريكا) مع كريستوف كولومب..

ولما أجابوا عن كل الأسئلة التي طرحوها عن حضارة الإسلام، أبصرت عيونهم النور بعد قرون من الظلمات.

وعليه نقول: بأن الحضارة الأوربية بأثافيها الثلاثة: الفكرية، والاقتصادية، والعسكرية؛ قامت على أنقاض الحضارة الإسلامية.

وإذا كنا نصف مسار الحضارة الإسلامية فليس هدفنا أن نقيم ضريحا لميت مشهور([4])، بل للقول أن آخر هذه الأمة لن يصلحها إلا ما صلح لأولها.

—————————————-

*- أستاذ العلوم الإسلامية، وباحث في مسلك الدكتوراه: الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية – جامعة السلطان مولاي سليمان – كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال.
[1] – تاريخ غزوات العرب لجوزيف رينو، ترجمة وتعليق: شكيب أرسلان، بيروت، 1966، ص296.
[2]الأكوريون: أطلقت هذا الاسم على الذين كانوا يرتادون ساحة أكورا للحوار والجدال
[3] – الحضارة الإسلامية في الأندلس وأثرها في أوروبا لتوفيق سلطان اليوزبكي، ص: 121.
[4] – الإسلام في الغرب لروجيه غارودي، ط. الثانية، دار الهادي – بيروت، ص: .12

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *