المقبول والمرفوض في تقرير “بيكر ـ هاملتون” د. علي عبد الباقي

صدر التقرير الذي طال انتظاره والذي أعده فريق دراسة العراق الذي ترأسه كل من “جيمس بيكر”، وزير الخارجية السابق، و”لي هاميلتون”، النائب الديمقراطي السابق.
التقرير هو عصا يريد الرئيس “بوش” أن يتكئ عليها للخروج من مستنقع الشرق الأوسط دون أن يكون ذلك على حساب احتفاظ أمريكا بمصالحها الإستراتيجية العليا وأهمها الحفاظ على مصادر النفط‏.‏
تقرير بيكر- هاملتون هو تقرير أمريكي الدوافع والمصالح، ولم يستهدف سوى الحفاظ على هذه المصالح والدفاع عنها.
فلسفة ورؤية جديدة
ما قدمه تقرير “بيكر” يمكن اعتباره فلسفة ورؤية جديدة ترى المنطقة كلها كفضاء استراتيجي واحد تتشابك فيه المشكلات والأزمات وتحتاج كلها لمعالجة شاملة بما فيها الصراع العربي ـ الصهيوني، وبما فيه عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي، وحتى النظرة إلى النظم السياسية القائمة.
فلم تعد مهمة الولايات المتحدة تغيير نظم الحكم في المنطقة، وإنما تشجيعها بوسائل شتى نحو الإصلاح، لأنه ثبت من التجربة المرة في أفغانستان والعراق أن تغيير النظم لا يعني بالضرورة قيام حكومات مثالية ترتضيها أمريكا، وإنما على الأرجح سوف تكون ساحة للفوضى والعنف وتصدير الأزمات لساحات أخرى.
لقد كانت الفلسفة والرؤية الأمريكية التي قدمتها إدارة الرئيس “بوش” الابن تقوم على أن القوة العسكرية هي السبيل لتغيير الأوضاع التي تهدد أمريكا والعالم، لكن ثبت من التجربة العملية أن إسقاط نظام صدام حسين، والإطاحة بطالبان، لم تعن أكثر من اتساع الأزمات وزيادة العنف، واستفزاز العالم العربي والإسلامي لإفراز المزيد من ممارسي العنف ضد المصالح الأمريكية، ولم تعن أيضاً إلا نزيف القتلى الأمريكيين، واستنزاف النظم التي أقامتها أمريكا وحلفاؤها.
فلسفة ورؤية الرئيس الأمريكي الحالي كانت تصنف الدول إلى أعداء وأصدقاء، و”من ليس معنا فهو ضدنا”، أما في الفلسفة والرؤية لتقرير “بيكر”، فإن المسألة لم تعد بهذه البساطة، وإنما هناك عودة إلى أوقات سابقة من التاريخ الأمريكي حينما عرفت السياسة الأمريكية التعقيد الذي جعلها تقترب من الصين والاتحاد السوفيتي معا، لأنه طالما دول العالم لديها مصالح متنوعة، وأولويات مختلفة، فإن من الممكن التصدي لدول غير صديقة مثل إيران وسوريا من خلال الاعتراف بمصالحهم المشروعة ومن خلال حوافز كافية.
والدليل على ذلك أنه في دنيا السياسة الواسعة والعميقة لا يوجد شيء مستحيل، ولا يوجد أمر ثابت، ويجب ألا ننسى أن إيران تعاونت مع واشنطن في أفغانستان، كما تعاونت سوريا مع واشنطن في محاربة الإرهاب أحيانا.
ورطة كبيرة
من القراءة الأولى للتقرير يتأكد القارئ من عمق الورطة التي وقعت فيها الولايات المتحدة، أو بالأحرى أوقعتها فيها الإدارة الحالية.
لقد اعتمد معدو التقرير على تجنب التناحر وممارسة أساليب الابتزاز السياسي وركزوا جهودهم على ما يفيد فقط في تشخيص الواقع والتعرف على سبل تجاوزه.
ومن هنا جاء التقرير معبرا عن القواسم المشتركة بين الحزبين الأمريكيين (الجمهوري والديمقراطي) وبالتالي عن نبض المجتمع الأميركي في لحظة أزمة تواجه الإنسان الأمريكي عموماً دون اختيار منه، ودون إرادته أو رغبته.
عندما يؤكد التقرير أن الوضع في العراق سيئ جدا، وأنه مرشح للازدياد سوءاً إذا استمرت السياسات الحالية على ما هي عليه، وأن الخروج من المأزق يتطلب حتما تغييرا جذريا في السياسات، فمن المؤكد أنه لم يبتعد كثيراً عما أكده الإعلام العالمي المحايد، وقطاع كبير من الإعلام العربي، الذي كان يتعرض للأسف الشديد للهجوم والتندر من جانب الإعلام العربي العلماني المنهزم أمام الإعلام الأمريكي.

متى يتساقط الإعلام الكاذب؟
لقد خص التقرير الشأن العراقي بتوصيات منها: إعلان رئاسي أمريكي بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق، والتأكيد بأن أمريكا لا تسعى إلى السيطرة على نفط العراق، والتأكيد على أن مراجعة الدستور العراقي أمر أساسي لتحقيق المصالحة الوطنية ويجب أن يتم ذلك عاجلاً بالتعاون مع الأمم المتحدة.
كما يعترف التقرير بأن المصالحة الوطنية في العراق تتطلب إعادة البعثيين والقوميين العرب إلى الحياة الوطنية مع رموز نظام صدام حسين، كما يجب أن تكون مبادرات العفو متاحة، ونجاح أي جهد في المصالح الوطنية يجب أن يشمل إيجاد سبل للتوفيق بين ألد الأعداء السابقين، وأن التركيز الشديد على الهوية الطائفية يهدد فرصاً أوسع للحصول على دعم وطني للمصالحة.
وهكذا فإن التقرير أقر أن الإخفاق في العراق طال كل جوانب المشروع الأمريكي، وأن الشعب الأمريكي منقسم حول العراق انقساماً عميقاً، وأنه لابد بالتالي من تغيير جوهري في السياسة.
أحد أهم توصيات التقرير تدعو إلي انسحاب القوة الأمريكية المقاتلة من العراق مع حلول 2008، على أن يقتصر الوجود الأمريكي العسكري بعد ذلك على قوة تدريب ومساعدة للجيش العراقي بواسطة عشرين ألفاً من الجنود الأمريكيين، كما يؤكد التقرير علي ضرورة تجنب اعتماد سياسة لتقسيم العراق، ويشير إلي ضرورة وجود مركز قوي للدولة العراقية.
والنقطة التي يجب أن نتوقف عندها هي تجاهل التقرير للطرف الأساسي المؤثر حاليا في العراق، وهو المقاومة بمختلف فصائلها، حيث لم يطالب التقرير صراحة بضرورة إجراء حوار معها، فالمقاومة هي التي أفشلت مشروع الاحتلال الأمريكي في العراق، وهي التي جعلت نفقات هذا الاحتلال باهظة ماديا وبشريا.
ليست مفاجأة
وإذا كان الكثير من المراقبين الأمريكيين والعرب علي السواء، قد فوجؤوا بربط التقرير بين المسألة العراقية والصراع العربي ـ الصهيوني، ودعوته إلي تنشيط مسارات التفاوض جميعها (فلسطين، سورية ولبنان) من أجل إيجاد تسوية، فإن كاتب هذا المقال لم يفاجأ، لأنه طالما أن اللجنة قد تم تشكيلها بحياد، وليست تابعة لهوى ومزاج الرئيس الأمريكي، ومعه فريق المحافظين الجدد المتطرفين، فإنه كان طبيعياً أن تكون النتيجة هكذا، حتى ولو كانت أن يصل التقرير إلى حد ألا يتردد في الإشارة إلي ضرورة التفاوض حتى علي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
ولم يكن مستغرباً إذاً أن يركز التقرير علي ضرورة إيجاد حل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وانتقاد الإدارة الأمريكية التي أهملت هذا الملف في السنوات الماضية. لكننا ينبغي ألا نغفل أيضاً أن التقرير لم يقدم حلولا مقبولة تأخذ في الاعتبار مصالح الطرف العربي والفلسطيني خاصة، ولم يتطرق إلى الممارسات الإرهابية الصهيونية وصمت الإدارة الأمريكية عليها، الأمر الذي جعل توصيته في هذا الخصوص تبدو مغرقة فــــي التعميم.
توازن مفقود
لكن في نفس الوقت، فإن التقرير طالب بإشراك سورية وإيران في المحاولات الرامية إلى إعادة الهدوء إلى العراق، ولكنه استثني، دول الجوار العربية والإسلامية الأخرى، وهذا خلل خطير يكشف عن قصر نظر من قبل واضعيه. فالذين يتصدرون الحكم الحالي في العراق هم من حلفاء إيران، وقد فشلوا فشلا ذريعا في فرض الأمن والاستقرار وتشكيل حكومة تمثل كل العراقيين، وليس الطائفة التي ينتمون إليها فقط.
وإذا كان التقرير قد طالب سورية بأن تسيطر علي حدودها لوقف تدفق المجاهدين والأموال ومن أسماهم الإرهابيين إلى العراق ومنه، وإذا كان التقرير أيضاً قد رأى أن سورية مهمة من ناحية دورها الذي يمكن أن تلعبه في تسوية الصراع الفلسطيني – “الإسرائيلي”، فإننا نرى أنه لم يهتم بالمصالح السورية، أو الحوافز الأمريكية التي ينبغي تقديمها لسورية في مقابل ذلك، وأهمها الضغط على الكيان الصهيوني للجلوس على مائدة التفاوض مع سورية، والإقرار بحقوقها كاملة في الجولان.
سلبيات أساسية في التقرير
وبالرغم من قيمة التقرير وقدر واضعيه، فإن الإدارة الأمريكية غير ملزمة دستورياً بالتقرير ولا بتوصياته، بل إنه تعرض لانتقادات لاذعة بل ولهجوم مباشر من قبل الدوائر المحافظة المرتبطة بالإدارة الأمريكية، التي لم تتردد في نعته بتقرير الهزيمة والتخلي عن هدف الرئيس المعلن في تحقيق النصر، كما أن الرئيس “بوش” لم يخف فتوره تجاه توصيات التقرير وتقديره للموقف في العراق.
كما أن التقرير يتبنى السياسة نفسها التي تتبناها الإدارة الأمريكية، من ناحية السعي إلي تأمين الفضاء الاستراتيجي المجاور والمحيط بالعراق من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع الأمريكي.
ثم إنه لم يحدث من قبل أن قاد رئيس أمريكي بلاده إلى تورط عسكري رئيسي وكان هو شخصياً من وضع نهاية لهذا التورط، لأسباب تتعلق بالسياسة، ونفسية القيادة، وبمحاولة تخفيف وقع الهزيمة، ستترك إدارة بوش الملف العراقي لمن يخلفها بعد سنتين من الآن، بغض النظر عن الوضع الأمريكي في العراق آنذاك.
ومن جهتهم، فإن أنصار الدولة الصهيونية والمدافعين عن مصالحها في واشنطن لا يقبلون، بأي حال من الأحوال، الربط بين المأزق الأمريكي في العراق والصراع العربي ـ “الإسرائيلي”، وهم يرفضون بالتالي انطلاق التفاوض بين الدولة الصهيونية وأعدائها الفلسطينيين والعرب في ظل ضغوط المأزق العراقي.
كما إن إعلان جدول انسحاب للقوات الأمريكية وغير الأمريكية المحتلة للعراق يمثل المطلب الرئيسي للقوى العراقية الوطنية؛ بينما تطالب القوى المتحالفة مع الاحتلال جميعها تقريباً ببقاء القوات الأجنبية.
هذه المطالبة من عملاء أمريكا في العراق ربما تؤدي إلى التغاضي عن بعض ما يطالب به التقرير من ضرورة الانسحاب الأمريكي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *