منزلة الحياء في الشريعة الغراء

الكلام عن منزلة الحياء في الشريعة الغراء من أجل الكلام وأعظمه، لأنه كلام عن خلق جليل فرط فيه كثير من أهل هذا الجيل.

فإن مدار الإسلام على مقام الحياء من حيث الفعل لأنه القانون الشرعي الذي ينتظم الأفعال الشرعية جميعها، لذلك اتفقت كلمة الأنبياء عليهم السلام على استحسانه من أولهم إلى آخرهم، وأقرته العقول السليمة والفطر المستقيمة.
وإنه لمن مظاهر التوازن ومن علامات التكامل في التربية أن تجد المؤمن القوي الحازم الدؤوب حييا أديبا وقورا.
واعلم أن الخير والشر معان كامنة تعرف بسمات دالة كما قالت العرب في أمثالها: تخبر عن مجهوله مرآته.
وكما قال الشاعر:
لا تسأل المرء عن خلائقه *** في وجهه شاهد من الخبر
فسمة الخير الحياء وسمة الشر البذاء، وكفى بالحياء خيرا أن يكون على الخير دليلا، وكفى بالبذاء شرا أن يكون إلى الشر سبيلا.
قال بعض الحكماء: “من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه”.
وقال بعضهم: “حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه”.
وقال ثالث: “يا عجبا! كيف لا تستحي من كثرة ما لا تستحي، وتتقي من طول ما لا تتقي؟”.
قال الشاعر:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك وإنما *** يدل على فعل الكريم حياؤه
وليس لمن سلب الحياء صاد عن قبيح، ولا زاجر عن محظور فهو يقدم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى وبذلك جاء الخبر.
ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت”.
وليس هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الماوردي رحمه الله في أدب الدنيا والدين: “إغراء بفعل المعاصي عند قلة الحياء كما توهمه بعض من جهل معاني الكلام، ومواضعات الخطاب”.
وقد أورد العلماء تفسيرات كثيرة لمعنى هذا الحديث لكن أصوبها وأصحها وهو قول الأكثرين كما قاله ابن القيم رحمه الله في المدارج: “أنه أمر بمعنى الخبر، لأن الذي يكف الإنسان عن موافقة الشر هو الحياء، فإذا تركه كان كالمأمور بفعل كل محظور”.
فمن لا يستحي يصنع ما يشتهي.
قال بعضهم:
إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير *** والدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيى بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء

وقال الشاعر:
إن مما قد أدرك الناس قبل *** من كلام أوصى به الأنبياء
إن تكن ممن لا يراعي حياء *** فاصنع من بين الورى ما تشاء

تعريف الحياء وبيان منزلته
قال الصنعاني رحمه الله: “الحياء في اللغة تغير وانكسار يلحق الإنسان من خوف ما يعاب به، وفي الشرع: خلقٌ يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق” سبل السلام.
والحياء الممدوح كما قال ابن حجر في الفتح: “خلق يبعث على ترك القبيح”، ولذلك بين رحمه الله أن التحرج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتخاذ المواقف الجريئة في الحق، والتفقه في الدين بالضوابط والشروط ليس من الحياء المحمود، حيث قال في معرض الكلام عن الحياء الشرعي أنه: “الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر، وأما ما يقع سببا لترك أمر مشروع فهو مذموم وليس هو بحياء شرعي وإنما هو ضعف ومهانة”.
وقد وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان منزلة الحياء في الشريعة الغراء، منها:
– قوله عليه الصلاة والسلام مبينا أن الحياء خلق الإسلام من حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم: “إن لكل دين خلقا وإن خلق الإسلام الحياء” صحيح الجامع.
– وبين عليه الصلاة والسلام أن الحياء من الإيمان كما في حديث أبي هريرة: “الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار” صحيح الجامع.
– كما أخبر عليه الصلاة والسلام أن الحياء عماد الخير وقوامه وأساسه، ففي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: “الحياء خير كله” رواه البخاري ومسلم.
– وبين صلى الله عليه وسلم أن الحياء عنصر النبل في كل عمل يشوبه، كما في حديث أنس رضي الله عنه: “ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء القط إلا زانه” صحيح الجامع.
قال عمر رضي الله عنه: “من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقي”.
وقال سفيان رحمه الله: “الحياء أحق التقوى، ولا يخاف العبد حتى يستحيي، وهل دخل أهل التقوى في التقوى إلا من الحياء”.
وقال أحد السلف: “الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء”.

أنواع الحياء
الحياء يكون من ثلاثة أوجه، كما بينها الماوردي رحمه الله في ادب الدنيا والدين:
الأول: حياء المرء من الله تعالى: وهو أسمى منازل الحياء واكرمها، ولا غرو فإن الإنسان ليستحيي أن يقدم إلى من أحسن إليه من بني جنسه أدنى إساءة، فكيف لا يستحيي من خالقه الذي له عليه حق عظيم، فقد أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؟!
لو أن العباد قدروا خالقهم حق قدره لسارعوا إلى الخيرات يفعلونه من تلقاء أنفسهم، ولتباعدوا عن السيئات حياء من مقابلة خيره المحض بالجحود.
قال ابن القيم:
هب البعث لم تأتنا رسله *** وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق *** حياء العباد من المنعم
الثاني: الحياء من الناس، ويكون بكف الأذى عنهم وترك المجاهرة بالقبيح خجلا من أن يؤثر عنه سوء.
فهذا حذيفة رضي الله عنه أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكب الطريق عن الناس وقال: “لا خير فيمن لا يستحي من الناس”.
الثالث: الحياء من النفس، ويكون بالعفة وصيانة الخلوات.
قال ابن القيم رحمه الله: “وأما حياء المرء من نفسه فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من ا لحياء فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر” المدارج.
فاحرص عبد الله على الحياء من هذه الوجوه الثلاثة، فمن كملها كملت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهورا وبالجميل مذكورا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *