لقد شرع الله العبادات لتحقيق غايات عظيمة ومقاصد جمّة؛ حيث عني القرآن الكريم والسنة النبوية بالمقاصد العظمى للعبادات؛ ومن ذلك شعيرة الحج ، التي تضمنت مقاصد وأسراراً عديدة ،ومن شأن الوقوف على هذه المقاصد والأسرار أن يحقق المؤمن نتائج إيجابية، كما أن الجهل بمقاصدها قد يؤدي إلى نتائج عكسية، فمردود انعكاس العبادة على قلب الإنسان وعلى سلوكه،رهين ببعث الإحساس في النفوس بمقاصد العبادة وأسرارها العظيمة؛ لذا ارتأيت الحديثَ عن أهم المقاصد والحكم التي تضمنتها هذه الشعيرة الربانية،وذلك على النحو التالي:
• مقَاصد عقَدية:
توحيد الله تعالى وإقامة ذكره:
مقاصد الحج تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبد ،فمنذ الشروع في الإحرام والتلبية تبدأ ألسنة الحجاج تلهج بالتوحيد والتكبير وذكر اسم الله، فهو الواحد الخالق رب العالمين، الذي لا يستحق أحد سواه أن يعبد،كمافي الحج تحقيق لمقصد إقامة ذكر الله الذي انفرد بالكِبَر والعظمة؛ حيث أيام الحج كلها ذكر لله وتكبير وتعظيم له سبحانه عزوجل،قال تعالى: ” وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ” الحج: 28 ويقول سبحانه: ” وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ” البقرة: 203.
ويقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ” إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله تعالى وحده “رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
• مقَاصد تعبُّدية:
تعميق معنى العبودية لله:
قال تعالى:”قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ” الأنعام الآية:162.
هو خطاب دال على محض العبودية وعلى محض الذلة لله الواحد القهار، هذه الآية المعبّرة أيّما تعبير على أصدق ما يجده العبد الذي ذاق حلاوة الإيمان حقّاً وصدقاً،وتتجلى مظاهر هذه العبودية في الإذعان لأمر الله تعالى في أداء المناسك: – من تجرد عن الثياب المخيطة والمحيطة، وكشف عن الرؤوس، والطواف بالبيت، واستلام الركن، وتقبيل الحجر الأسود إذا أمكن، والسعي بين الصفا والمروة، وشرب ماء زمزم، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمرات تعجلا أو تأخرا، والنحر يوم العيد…كل ذلك يعتبر مظهرا للعبودية الخالصة لله رب العالمين.
تحقيق التّقوى:
قال تعالى:”وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ” البقرة: 197.
ومن سبل تحقيق التقوى في الحج تعظيم شعائره وحرماته، فتعظيم شعائر الله تعالى أمارة على قرب المؤمن من خالقه ودليل ساطع على تقواه، وذلك مقصد عظيم من مقاصد الحج قال تعالى: ” ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ” سورة الحج: الآية: 32
• مقَاصد أخْلاقِية:
قال الله تعالى: ” الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ” سورة البقرة، الآية: 197
هذه الآية أصل من أصول الحج وفيها فوائد عديدة، وتحتوي على أحكام وآداب متعلقة بالحج من جهات مختلفة،لقد اسْتُهلّت الآية بذكر أشهر الحج، التي هي مناسبة لإيقاظ هِمم المؤمنين للتعرف إلى الله والتعريف به من حيث هو خالق الكون الذي خلق كل شيء،ومن الأخلاق التربوية التي تتحقق خلال أداء هذه الشعيرة الربانية ما يلي:
تربية المؤمن على الصبر والتحمل في بيته وعمله وحياته وكل شيء، وتربية النفس على الانضباط، فالميقات الزمني محدود والميقات المكاني معلوم أيضا، والتقيد بذلك يعوّد المؤمن على روح الانضباط والانتظام.
كما أن الحج يربي على والعفّة وسمو النفس؛ بحيث أنه حتى الحلال ممنوع أثناء الإحرام لا يرفث الإنسان مع زوجته بالكلام الذي فيه غزل أو فضلا عن الوصال الجسدي ومقدّماته فضلا عن عقد النكاح فهو محرم أثناء الإحرام.
وفي الحج تربية على الكرم والجود والسخاء والبذل والإنفاق،كما أن فيه تربية على التواصل والتعاون بين الناس وليس على التدافع والتقاطع، فالملاحظ أثناء تأدية شعيرة الحج بروز روح الغلبة والتغلّب على الآخرين بدل روح التعاون.
• مقاصد اجْتمَاعية:
حفظ وحدة الأمة وتماسكها:
قال تعالى:” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ” الحجرات: الآية: 10.
لا شك أن الأمّة تعيش حالات من التهتك والتمزق، لكن مثل هذا النسك يعيد الاعتبار أن هناك أمة موجودة، فكل من يؤمن بالقرآن فهو مخاطب بالمجيء إلى هذا البيت،وكل ذلك تأكد على معنى وحدة الأمة والبحث على سبل العزة والمجد لها،وتدارس مشكلات الأمة .
الحج أعظم مؤتمر عالمي وحضاري:
إن الحج يشكل مؤتمرا حضاريا تجتمع له الملايين، فالحضارة إنما تتحقق باتصال الشعوب ببعضها البعض فتقتبس من بعضها الرقي والنمو في المعرفة والسلوك والعلم والصناعة والتجارة وغيرها،وذاك ما يحدث أثناء تأدية فريضة الحج.
فماهو المردود النفسي والاجتماعي والأثر الذي يحدثه هذا النّسك العظيم على نفوسنا وسلوكنا وحياتنا ؟ إن الالتقاء الذي يحدث بين المسلمين على اختلاف مشاربهم وأجناسهم ولغاتهم أثناء تأدية شعيرة الحج كفيل بمعالجة مشاكل المسلمين وتدارس قضايهم العظيمة من قبيل السلم الاجتماعي وإرساء دعائم الأخوة الإيمانية وتكريس مبدأ السلم العالمي والتعاون الدولي،وحفظ الحقوق وتنمية الروح الجماعية وصفاء القلوب وإبعاد كيد النّفس الأمارة بين الناس وكيد الشيطان في العلاقات داخل الأسر وفي المجتمعات.