لقد قرر القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل الدين وأتمه، قال تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً” المائدة.
فما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن اكتمل الدين وتم التشريع قال ابن عباس: “أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا وقد رضيه فلا يسخطه أبدا” تفسير القرآن العظيم.
إذا تقرر هذا فإنه يلزم منه عدم شرعية زيادة شيء في الدين ليُتقرب به إلى الله عز وجل فإن الكامل لا يقبل الزيادة، والتام لا يقبل الإضافة، “فأي إحداث أو ابتداع إنما هو استدراك على الشريعة، وجرأة قبيحة ينادي بها صاحبها أن الشريعة لم تكفِ ولم تكتمل فاحتاجت إلى إحداثه أو ابتداعه” علم أصول البدع.
والبدعة: “طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه” الاعتصام.
وقد جاءت السنة بالتحذير من الابتداع والتنفير من سبيل البدعة؛ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” متفق عليه.
وقال صلى الله عليه و سلم: “إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة” أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: “من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة” مسلم.
وقد تتابعت آثار السلف من الصحابة والتابعين في ذم البدع والتحذير من سلوك سبيلها؛ فهذا حبر الأمة ابن عباس يوصي رجلا قائلا: “عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع” الدارمي.
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه قال: عليكم بالطريق فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن خالفتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا” الإبانة الكبرى لابن بطة.
ويبين ابن عمر ضي الله عنه أن البدع كلها شر وضلال فيقول: “كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة” السنة للمروزي
وكان إبراهيم النخعي يقول: “لو أن أصحاب محمد مسحوا على ظفر لما غسلته، التماس الفضل في اتباعهم”الإبانة الكبرى.
ولم يكن هذا الموقف من البدع وأهلها خاصا بآحاد السلف بل أجمعوا على ذلك؛ قال الإمام البغوي رحمه الله: “وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنن على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم” شرح السنة 1/27.
وإعمالا لهذا المنهج نجد أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وظهرت البدع وقف الصحابة صفا واحد في وجهها، ولم يثبت أن صحابيا واحد تلبس بدعة أو كان مع طائفة من أهل البدع، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، إذ لو حصل ذلك لضاع الحق والتبس الأمر، ولكن قضى الله أن يبقى الصحابة كلهم في خندق واحد ويخرج أهل البدع لينأوا بأنفسهم عن الكتاب والسنة وهدي الصحابة.
الحاصل أنه ما ظهرت بدعة إلا ووقف الصحابة في وجه أصحابها بالمرصاد، ومن أمثلة ذلك ما رواه مسلم عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ فِي الْقَدَر، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلا الْمَسْجِد،َ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ والآخَرُ عَنْ شِمَالِه، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكلامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِم، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا قَدَر وَأَنَّ الأمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَر، ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ..” وساق حديث جبريل المعروف.
وبعد الصحابة وقف التابعون وأتباعهم في وجه كل بدعة ظهرت، و كل ضلالة أُحدثت، وما زال أتباع السلف في كل زمان يذودون عن حياض الدين، متمثلين قول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” البيهقي.
أما غيرهم من المناهج فلا تجدهم إلا متلبسين بالبدع، ناصرين للبدع، مجمعين على غض الطرف عنها وعن أهلها، ولا شك أن ذلك خيانة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وفي المقال القادم بحول الله نسلط الضوء على غياب هذا المميز عند المخالفين لمنهج السلف. والله الموفق.