الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه وفضلَّه على كثير ممن خلق تفضيلا، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
ومن أعظم تلكم النعم نعمة العقل التي امتن الله بها عليه دون غيره من المخلوقات وخصَّه بها تكريما وتشريفا وتكليفا، ليَعرفَهُ به حق المعرفة فيعبده العبادة الحقة التي تليق بمقامه العظيم، وذلك بإعماله في التفكر في آيات الله الدالة على عظمته، الموصلة إلى وحدانيته سبحانه وتعالى.
وهو نعمة عند البعض يقودهم إلى الهداية عندما ينضبط بوحي الله، ويُحكم بشرعه، ونقمة عند آخرين يكون سببا في ضلالهم وهلاكهم ممن قدموه على وحي الله وجعلوه حاكما على شرعه.
ومن هنا تتضح المكانة التي منحها ديننا الحنيف للعقل النابعة من وسطيته الحكيمة، والتي جعلته في منزلة بين الجفاء والغلو، فلم تقصه أو تلغيه، ولم تطلق له أيضا العنان حتى يكون حاكما على الأمور كلها.
فحددت له الأمور التي تدخل تحت سلطانه، والتي يمكنه فهمها والاستفادة منها. وبيَّنت له التي يلزمه التسليم بها، وهي ما لا يوزن بميزانه، والتي يكون إعماله فيها طلبا للمحال.
كما قرر ذلك العلامة ابن خلدون فقال: «العقلُ ميزانٌ صحيح، فأحكامُه يقينيَّة لا كذِب فيها، غير أنَّك لا تَطمع أن تزِنَ به التوحيدَ والآخِرة وحقائق النبوَّة، وحقائق الصِّفات الإلهيَّة، وكل ما وراء طورِه، فإنَّ ذلك طمع في محال» .
فكل طامع في وزن هذه الحقائق بميزان عقله البشري القاصر طالب للمحال، ومبتغ للمستحيل.
وكوننا لا ننكر قيمة العقل البشري وقدراته الهائلة ومؤهلاته الكبيرة لا يجعلنا نغفل قصوره عن إدراك ما لم يجعله الله من اختصاصه، ولم يؤهله للخوض فيه، وهوما يلزمه التسليم به، والسير وفق إرادة الله العادلة وتشريعه الحكيم.
وكذلك كوننا نقِّر بأن هذا العقل نعمة، لا يمنع من كونه قد يتحول إلى نقمة إذا تجاوز حدود المطلوب منه، ودخل غياهب الباطل معتمدا على قدراته دون هدى من الله. فالأول يقود صاحبه للهداية والثاني لا يسلك بصاحبه إلا طريق الغواية.
فعندما يحصل انسجام تام بين عقل الإنسان وبين تشريع الله وما أراده الحق سبحانه هنا نتحدث عن العقل بكونه النعمة.
وعندما يقود هذا العقل صاحبه إلى التعارض والتنافر مع ما إرادة الله سبحانه وتعالى يمكننا أن نصطلح عليه بالعقل النقمة.
وليس العيب في العقل كمكوِّن إنما العيب في الإنسان الذي يحمل هذا العقل ويسلمه للشبهات باتباع وحي الشيطان المنمق، الذي يصنع له قوانين ومساطر، ويأمره بإخضاع شرع الله لها، فتجده متشبتا بباطله ولا حق إلا ما أُشرب من هواه ووافق عقله وقوانينه الشيطانية.
معرضا بذلك عن محكم القرآن، وصحيح السنة، ومعارضا أقوال الصحابة الكرام وأئمة الإسلام، ساعيا وراء شبهات أعداء الدين، يرددها ترديد الببغاء ويجترها اجترار البقر، ويدعي سبقا إلى عقلها، وحيادية وعقلانية في اعتقادها.
مخالفا اعتقاد العقلاء من أهل السنة الأخيار القاضي بأن «أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه» .
فالعقول السليمة لا تعارض بينها وبين النقول الصحيحة، وإذا ثبت النقل ووجد التعارض فالخلل في تلك العقول التي أوردها أصحابها موارد الهلاك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم» .
فكل من لم يتيقن هذه الحقائق فليعلم أنه أصيب في عقله بداء يلزمه البحث له عن علاج يخلصه من كل الشبهات العالقة به حتى يتحرر من قيود الشيطان وينطلق في مشيئة الرحمان ليُهدى ويهدي صاحبه إلى صراط الله المستقيم.
ومن هنا وجبت الدعوة إلى شكر الله على نعمة العقل للاستزادة منها، وعدم كفرها، فإن النعم إن شكرت قرَّت وإن كُفرت فرَّت.
والله نسأل أن يديم علينا نعمه وأن يعيننا على شكرها، وأن يرزقنا العقل الراجح الذي نهتدي به إلى الحق، وأن يثبتنا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه.