قلب الإنسان مع كونه قطعة من لحم رطب نيئ إلا أنه قد يتحول إلى عضو أشد قسوة من الصخر، “وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ ” البقرة:72-74، متى أظلم بالمعاصي، واستحوذت عليه الشهوات، وتحكمت فيه الفتن، وانطفأ منه نور الإيمان، وتراكمت عليه الحجب وتغلف بالران، فلا يجد القرآن له منفذا، ” لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الحشر:21، ولا يحدث ذكر الله تعالى فيه أثرا، “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” الحديد:57.
قلب معاند متكبر، ملأته الأحقاد، واستوعب كل الأدواء والأمراض، انغلق صدره على الشرور واكتنف سوء النوايا، فلا حظ له من الهداية ولا نصيب له من الرشاد، توعد الله تعالى صاحبه بالويل والعذاب، “أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” الزمر:22.
هو قلب ضال تائه لا يجد إلى الحق طريقا ولا إلى الهدى سبيلا، انساق وراء الهوى واتخذه مرشدا ودليلا، “ثم يختتم المشهد بالتهديد الإلهي المروع لمن قسا قلبه عن ذكر الله… إذا تمعن الباحث في هذا المشهد الذي شكله القرآن حول ظاهرة (قسوة القلب) أدرك فورا أن (قسوة القلب) يجب ألا تكون شيئا هامشيا في حياتنا، لقد منح القرآن اهتماما واضحا لهذه الظاهرة، فوصفها وشرح آثارها وأسبابها، وهدد صراحة من وقع فيها…” إبراهيم بن عمر السكران، رقائق القرآن، ص:64.
ونجد من أسباب قسوة القلوب، نقض المواثيق وإخلاف الوعود، والإخلال بالعهود، وهي صفات نفاق صريح وعلامات مرض قلبي حقيق، مظاهره تحريف لكلام الله تعالى، ونسيان لما نزل من الوحي، وإضمار شر وخيانة، ومن آثاره لعنة من الله وخروج من رحمته عز وجل، “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” المائدة: 13.
وقلب الإنسان كما يتقلب بين نعمة الطمأنينة والأمن وبلاء البأس والشقاء، فإن منه من يخضع لله تعالى ويتذلل إذا أصابه مكروه ونزلت به نائبة، فيخشع ويتضرع، حتى إذا انكشف عنه البلاء وعمته النعم، وفتح الله عليه أبواب كل شيء، ركن إلى الملذات وخلد إلى الشهوات وزين له الشيطان عمله، ونسي المُنعِم وذِكره، وأنكر ما تكرم عليه من آلاء، ونأى به الزمان عن فترة البلاء، وظن أنه في أمن دائم، قسا قلبه، “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ” الأنعام:42-43.
وفي الركون إلى الملذات واستكثار زينة الحياة الدنيا والانشغال بها، والاستزادة من الكماليات من غير ضابط شرعي ولا داع معقول، باعث على قسوة القلوب وتحجرها، عن النَّبي صلى الله عليه و سلم قال: “وإنَّ القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، حيث يطلع قرنا الشيطان، ربيعة ومضر” البخاري 5303، “الفدادون: قيل هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، وقيل هم المكثرون من الإبل، وقيل أهل الجفاء من الأعراب…” فتح الباري: 1/166، قال الخطابي: “إنَّما ذمهم لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمر دينهم، وذلك يفضي إلى قسوة القلب” المناوي، فيض القدير: 4/607.
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها قالت: “إن أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد قضاء نبيها صلى الله عليه وسلم: الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فتصعبت قلوبهم، وجمحت شهواتهم” ابن أبي الدنيا، الجوع:22، “…وفي كثرةِ النومِ ضياعُ العمر وفوتُ التهجدِ وبلادةُ الطبعِ وقسوةُ القلب، والعمرُ أنفسُ الجواهرِ، وهو رأسُ مالِ العبدِ، فيه يتجر، والنومُ موت، فتكثيره يُنقِصُ العمر…” أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: 3/104.
كما أن إنكار نعم الله تعالى وتكذيب معجزاته من بواعث قسوة القلوب، لأنه بها تقام الحجة ويتأثر الحس بالمعاينة والمباشرة، فيقع الأثر على القلب تصديقا لا مرية فيه، فإذا أنكر وجحد، فهو قلب مصاب أغلف قاس، علم الله ما فيه من مرض، فطبع عليه ختما بالكفر فلا يتطرق له نور الإيمان، “وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ ” البقرة: 72-74.
“…هل من اللائق أن يكون القرآن كثف الحديث عن (قسوة القلب) وآثاره المدمرة ثم تكون قسوة القلب مجرد حدث عابر في حياتنا، أو حالات عرضية لا نأبه لوقوعها وارتفاعها؟ … لا خيار لنا في اتخاذ القرار العاجل والمبادرة بمداواة قلوبنا من هذه القسوة التي تداهمها. وقد أثبتت التجارب أن أنفذ الأدوية وأسرعها في معالجة قسوة القلب هو تلاوة وتدبر كلام الله سبحانه وتعالى… فإذا رأى متدبر القرآن كيف يصف القرآن بأنه تقشعر منه جلود المؤمنين، وتلين قلوبهم له… أدرك أن هذا القرآن أنجع وسيلة تهز القلوب وتطير بها عن منحدرات القسوة وكهوف الرين…” إبراهيم بن عمر السكران، رقائق القرآن، ص:64-66.
اللهم اجعل قلوبنا خاشعة لينة بذكرك، وقها من كل قسوة وجفاء.
والحمد لله رب العالمين.