طمأنينة القلوب طارق برغاني

لن يذوق طعم السكينة والأمن والراحة إلا شخص ضم صدره قلبا مطمئنا، امتلأ بنور الإيمان وأحاط به ضياء التقوى وغشيه فيض رباني من الرشاد والهداية، وانشرح لاستيعاب معاني الآيات الربانية ومقاصد الأحكام الإلهية، “فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ” الأنعام 125، فهو إذن قلب حي منشرح، يسمع فيعقل ويبصر فيهتدي، يستوعب فيعي، كلها قطوف دانية ينالها بعد تحقيق الاطمئنان، وما كل ذلك إلا بتوفيق من الله تعالى وتيسيره لسبل الهداية وصرفه عن مسالك الضلال.
الإيمان:
كلما رسخ في القلب واستقر في الأنفس إلا وأثمر طمأنينة لا سبيل لاختلالها لأن الإيمان هو الأصل وهو الأساس، إيمان اصطبغ باليقين الذي لا يتطرق إليه شك، مهما اشتدت أساليب التخويف والتنكيل والسخرية والترهيب، “مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” النحل: 106.
والقلب المطمئن الآمن يُلقي الله تعالى فيه المحبة والرحمة والقبول، فيؤثر في الناس إيجابا، ويستقطب العباد للتقرب منه، لأن السكينة التي غشيته أحاطت بصاحبه هالة روحية إيجابية يستشعرها من يجالسه أو يلتقيه، فيسكن لحديثه ويأنس لمجالسته، “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” آل عمران:159.
وقلب النبي صلى الله عليه وسلم أصفى القلوب ثم قلوب أصحابه رضوان الله عليهم لأنهم تربوا على يديه وتتلمذوا في مدرسته، ساروا على نهجه وسنته، عن عبدُ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: “إنَّ اللهَ تبارك وتعالى نظر في قلوبِ العبادِ فوجد قلبَ محمدٍ خيرَ قلوب العبادِ فاصطفاه لنفسِه وابتعثَه برسالتِه، ثم نظر في قلوبِ العبادِ بعد قلبِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ فوجد قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيِّه، يقاتِلون على دِينِه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللهِ حَسَنٌ، وما رآه المسلمون سيِّئًا فهو عند اللهِ سَيِّئٌ” منهاج السنة:2/77.
معاينة معجزات الله عز وجل:
وفيها اليقين والصدق، إلا من أعمى الله بصيرته عن الحق، وهي حجة قائمة على من عاينها إن ارتد أو كفر، لأنها إثبات في منتهى التصديق والصحة، وهي الحقيقة التي لا يشوبها شك ولا يغشاها ريب، فمتى عيانها قلب المؤمن وشاهدها ببصره واستيقنتها نفسه إلا ورسخ الإيمان في قلبه، واستحكم اليقين في فؤاده، وأثمر كل ذلك طمأنينة لا تضطرب ولا تهتز، “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” البقرة: 260.
ويأتي طلب مشاهدة المعجزة في مواضع من القرآن الكريم إخبارا عن قصص وأنباء السابقين، طلبا منهم لله عز وجل، على لسان نبيهم، لتحقيق الطمأنينة ودفع الشك الذي قد يعتري قلوبهم أو يساور أنفسهم، “إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ” المائدة:112-113، وفي هذا الباب يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى وسائل دفع وساوس الشيطان ورد همزاته التي قد يلقيها في قلب المؤمن أو يدسها في نفسه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلَق كذا، مَن خلَق كذا، حتى يقولَ :مَن خلَق ربَّك؟ فإذا بلَغه فلْيَستَعِذْ باللهِ ولْيَنتَهِ” البخاري:3276.
الاستقامة بعد الإيمان:
وهي شرط لتحقيق الطمأنينة في القلوب يظهر أثرها في الدنيا، وتتوج بالبشرى السارة يوم القيامة ألا وهي الفوز بجنة الخلد، فهنيئا لهذه الطائفة التي استقامت على الحق وصلح عملها بعد أن حققت الإخلاص في الإيمان والصدق في العقيدة، “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ” فصلت:30، وقد أورد القرطبي في الاستقامة عددا من أقوال العلماء، “..ثم أخلصوا العمل لله .. ثم أدوا الفرائض.. استقاموا على الطاعة الله . استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته.. استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا.. عملوا على وفاق ما قالوا.. زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقيل: استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرارا، وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.. وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا، وداموا على ذلك..” الجامع لأحكام القرآن:15/320، والاستقامة تتطلب في أصلها مبدأ الالتزام والمواظبة والثبات، ومرد الثبات في الأصل إلى القلب الذي قد لا يسلم من تقلب، لذا فمتى ثبت استقام، ومتى استقام اطمأن.
ذكر الله عز وجل:
هو الطاقة الدائمة للعبد التي تمده بالراحة والسكينة لأنه سبيل لتليين القلوب وخشوعها، “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ” الزمر: 32، ووسيلة للتفكر ولزوم القرب من الله تعالى، وهو مفتاح السعادة والطمأنينة والسكينة، “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” الرعد: 28، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يقعدُ قومٌ يذكرون اللهَ عز وجل إلا حفَّتْهم الملائكةُ، وغشيتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عنده” مسلم: 2700.
اللهم أقم قلوبنا على طاعتك وارزقها طمأنينة دائمة.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *