هــــــلاك الأمـــــــــم برغاني طارق

في تاريخ الأمم عبر عظيمة، وفي أخبار الأقوام دروس جليلة، والقرآن الكريم يخبرنا بما صارت إليه تلك الأقوام وبما آلت إليه مصائرها، كما يرشدنا إلى التفكر في ما خلفته من آثار شاهدة على ما بلغته من مظاهر الترف والرفاهية، فما أغنت عنهم وسائلهم المادية وأسبابهم الدنيوية من شيء لما جاء أمر الله.
ويدعونا القرآن الكريم في مواضع كثيرة إلى النظر والتفكر، وإلى الاعتبار والتعقل فيما آلت إليه مصائر تلك الأقوام، “أًفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا” محمد: 10، فمنها من انساق وراء الملذات واستحكمت فيه الشهوات، فأملى الله لهم فيها وفتح عليهم أبواب الخير وأغدق عليهم من نعمه، فاستطال بهم الحال في الإسراف وصنوف المعاصي حتى إذا بلغوا أوج الفساد والعظمة ولم يرتدعوا بحكم العقل والأخلاق والشِّرعة، وحادوا الله تعالى ورسله استهزاء واستكبارا، أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، فسلط عليهم جند عذابه ونقمته.
ولنا في قوم عاد وثمود عبرة وعضة، “كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ” القمر:18-20، “كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا” الشمس: 11-14.
من تلك الأمم من جاءهم الحق من ربهم وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فركنوا إلى كفرهم واتبعوا آثار أباءهم وآثروا الشرك على التوحيد وفضلوا الكفر على الإيمان، فلم يعتبروا وهم يرون من الآيات المعجزات عيانا ويعيشون صنوف البلايا الرادعات جهارا، فعاندوا وأصروا على ضلالتهم وقد أقيمت عليهم الحجة من الله تعالى، والقرآن شاهد عليهم من بعدهم.
ومن هؤلاء قوم فرعون الذين ألّهوه وجعلوه في مقام الربوبية، وموسى بين أظهرهم يدعوهم إلى التوحيد وينذرهم عذاب الله عز وجل مؤيدا بمعجزات باهرات وبوحي إلاهي، “هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ” النازعات: 15-25، فما كان جزاء تعنتهم إلا أن سلط الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ردعا لهم، “وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ” الأعراف: 130-133، فلما نقضوا عهدهم مع الله تعالى بالتوبة، إن رفع عنهم العذاب، وعادوا لما نهوا عنه، استأصلهم الله عز وجل وقطع دابرهم غرقا، ويوم القيامة يسامون أشد العذاب: “وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” الأعراف: 134-136.
وأمم تحدوا الرسل وحادوا الله استكبارا واستهزاء فقالوا: “أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ” الشعراء: 111، وانصرفوا فكهين، فانقلب عليهم استكبارهم نقمة من الله واستحال إليهم استهزاؤهم عذابا، “فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ” الشعراء: 119-120.
وقوم أصموا آذانهم ورفضوا سماع الحق قبل النطق به، واتخذوا مواقف مسبقة بالإعراض قبل الاستماع وبالصد قبل الاقتناع، فادعوا أن رسلهم سحرة ومجانين: “كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجْنُونٌ” الذاريات: 52، وسفهاء كذابين: “قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” الأعراف: 66.
وقوم أشاعوا في شعوبهم البلايا والبدع، وتعمدوا مخالفة أوامر الله تعالى واستباحوا نواهيه وانتهكوا حرماته، فابتلاهم الله عز وجل بالمسخ والرجم والخسف، ومن هؤلاء أصحاب السبت: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ” الأعراف: 165-166 وأصحاب الفيل: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ” الفيل، وقارون: “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ” القصص:81.
والمتأمل في تاريخ هذه الأمم وغيرها، يستخلص منها أن الباطل مهما صال وجال، فإن الحق لا محالة عليه ظاهر وله دامغ، وهذا قانون ماض في تداول الأيام بين الناس، يشهد عليه القصص القرآني، ويصدقه ما يباشره الحس ويدركه العقل من معالم ومآثر شاهدة على تاريخ الأمم البائدة، فمبلغ هذا التأمل وغايته أخذ العبر من الماضي للاحتراز من فتن الحاضر والآتي، وهذا هدى ورحمة من الله تعالى لا يدرك قيمتهما إلا أولوا الألباب: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” يوسف: 111
نسأل الله تعالى الأمن والسلام في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *