مـن قتـل بـوتو؟ حسن الرشيدي

“مشرف لم يتجاوز الخط الذي تصبح معه سياسته غير مقبولة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية”.
هذا جزء من تصريحات الرئيس الأمريكي “بوش” في مقابلة مع محطة “إي بي سي نيوز” الأمريكية بثتها الشهر الماضي يدافع فيها ظاهريا عن نظام “برويز مشرف” في باكستان، ولكن يحمل في طياته تهديدا غير مباشر لهذا النظام الذي تعتقد دوائر كثيرة في الإدارة الأمريكية أنه يمارس معها سياسة الخداع.
وتحظى باكستان باهتمام دولي وإقليمي كبير لأسباب كثيرة أهمها الآن موقعها البؤري في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب.
ولذلك منذ أحداث الحادي عشر من شتنبر والتي أعلنت القاعدة مسئوليتها عنها من داخل أفغانستان فإن الولايات المتحدة تمارس ضغوطا هائلة ولا يستطيع أحد تخيلها على باكستان لكي تقوم بدور التابع لأمريكا في تلك الحرب.
وجاء اغتيال “بناظير بوتو” كأحد حلقات تلك الحرب.
لقد برز من خلال التصريحات والمقابلات أن “برويز مشرف” ومن وراءه المخابرات الباكستانية كانت غير راضية عن عودة “بوتو” فعودتها تمت من خلال ضغوط أمريكية لتغيير النظام الباكستاني العاجز من وجهة النظر الأمريكية عن مواجهة القاعدة أو طالبان لأسباب استراتيجية من النظام الباكستاني الذي يرى أن تخليه عن طالبان هو تخلي عن امتداد استراتيجي له داخل أفغانستان، والولايات المتحدة تدرك جيدا وتدرك أيضا طبيعة النظام الباكستاني الذي اعتمد مبدأ “البراجماتية” السياسية في مواجهة الضغوط الأمريكية، هذه البراجماتية تعتمد على تقديم التنازلات غير جوهرية والالتفاف على هذه الضغوط.
وهناك أمثلة عديدة على هذه التوجهات:
فعندما كثرت الضغوط على النظام الباكستاني في أعقاب أحداث الحادي عشر من شتنبر لدرجة أن طائرات صهيونية انطلقت من الهند واخترقت المجال الجوي الباكستاني فوق المفاعل النووي الذي لديها وذلك أثناء اجتماع بين السفيرة الأمريكية في إسلام أباد مع الجنرال “برويز مشرف”، ولذلك سارعت باكستان إلى سحب تأييدها لطالبان وتنازلت باكستان رسميا وظاهريا عن أفغانستان، وكذلك أثمرت الضغوط بالنسبة لكشمير فسكتت الأصوات الباكستانية المطالبة باسترداد الجزء المحتل من كشمير وحتى عندما زادت الضغوط من قبل الإدارة الأمريكية على باكستان لتسليم قيادات القاعدة وطالبان الفارين كانت القيادة الباكستانية تسارع إلى ضرب منطقة القبائل على الحدود الأفغانية الباكستانية وظهر الصراع هناك بمظهر الحرب الدائرة بين الجيش الباكستاني والقبائل الباشتونية على الحدود.
وهنا جاء دور المخابرات الباكستانية التي كانت تلتف دائما على المطالب الأمريكية، فحين كانت القيادة السياسية الباكستانية بزعامة “برويز مشرف” تستسلم ظاهريا للمطالب الأمريكية كانت المخابرات الباكستانية ترعى قيادات طالبان وربما القاعدة، ولا يتصور أن المخابرات الباكستانية القوية والتي لها خبرة طويلة منذ أيام الحرب السوفيتية على أفغانستان أن تجهل كل شبر وكل قرية على هذه الحدود حيث ينتشر عناصرها ومجنديها وعملاءها في تلك المنطقة.
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من شتنبر بعدة أشهر قالت “النيويورك تايمز”: كانت وكالة الاستخبارات الباكستانية توفر منذ زمن بعيد ممراً آمناً لمجموعة كبيرة من سائقي الشاحنات والمهربين الذين يزودون ماكينة طالبان الحربية بكميات هائلة من الأسلحة، ولكن كان يفترض أن هذه السياسة قد تغيرت في شتنبر الماضي بعد أن وجهت واشنطن إنذاراً لباكستان.
وفي تحقيق لمجلة “نيوزويك” الأمريكية ذكرت فيه أنه بينما تواصل القوات الأمريكية مطاردة أعضاء القاعدة والطالبان في المناطق العشائرية في باكستان اجتمع كبار مسئولي حركة طالبان مؤخراً بالقرب من “بيشاور” وبالرغم من وجود مسئول من المخابرات الباكستانية إلا أنه تركهم يرحلون بدون أن يتدخل.
واعترف مسئول كبير في الاستخبارات الباكستانية أن شحنة الثامن من أكتوبر من عام 2001 أي بعد القصف الأمريكي لأفغانستان كانت تحتوي فعلاً على أسلحة مرسلة إلى طالبان، لكنه قال إنها كانت آخر دفعة مقررة رسمياً، وإن الباكستانيين كانوا منذ ذلك الحين ملتزمين بتعهدهم للأميركيين.
وقد قال أحد مديري وكالة الاستخبارات في مقابلة أجريت معه مؤخرا: إنه لن يكون من اليسير بالنسبة للضباط أن يتخلوا عن معتقداتهم ويغيروا مواقفهم.
وتدل تصريحات يدلي بها مسئولين أمريكيين من حين لآخر وتسريبات للصحف والمجلات الغربية أن الإدارة الأمريكية تعتقد أن “برويز مشرف” أو على الأقل المخابرات الباكستانية تلعب لعبة مزدوجة معها ولكن لا تملك هذه الإدارة أي أوراق إلا ممارسة الضغوط القوية بمقدار ما تستطيع، حتى لا تفقد دعما معينا تقدمه هذه الإدارة للولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب.

إقحام “بوتو” قصرا في منظومة الحكم الباكستاني
مع زيادة الضغوط التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية بعد فشلها في العراق وأفغانستان وعجزها عن القبض أو قتل قيادات القاعدة المسئولة عن أحداث الحادي عشر من شتنبر أي أنها في إطار بحثها عن إنجاز حقيقي تقدمه للرأي العام الأمريكي توالت الضغوط على مشرف لتقديم قربانا وهم قادة القاعدة الفارين، هنا عمدت الإدارة الأمريكية بعد نفاد حيلها مع نظام مشرف إلى تعديل كمي لهذا النظام بإدخال طرف موال للغرب في منظومة هذا الصراع فكان البحث عن شخصية سياسية يتوفر فيها شيئين:
تأييد مقبول من قبل الشعب الباكستاني، والموالاة للغرب، وأفضل من يمثل هذه الحالة هي “بنازير بوتو” فجيء بها ومورست ضغوط كبيرة على نظام “برويز مشرف” للقبول بها وإدخالها بطريقة ما في منظومة الحكم الباكستاني لكي تقود الحملة ضد الإرهاب وقيادات القاعدة الفارين.
ويبدو أن المخابرات الباكستانية أدركت ذلك فعملت على تجاوز ذلك التغيير المطلوب أمريكيا فعمدت إلى اغتيال “بوتو” وسواء تم ذلك بواسطة المخابرات الباكستانية مباشرة أو عن طريق بعض الجماعات الباكستانية المتطرفة المخترقة من طرف المخابرات الباكستانية فإن المحصلة النهائية تبقى الجهة المسئولة عن الاغتيال هي واحدة.
ولكن رد الفعل الأمريكي على الاغتيال هو التطور المنتظر حدوثه مستقبلا، والذي تدركه جيدا الجهة التي وقفت وراء قتل “بوتو”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *