الصادقون يخفون طاعاتهم

في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ… ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله).

وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فأغلقت عليهم باب الغار فقاموا يتوسلون إلى الله بأفضل أعمالهم، أعمال أخلصوا فيها لله كانت بينهم وبينه لم يسمع بها الناس ولم يضرب لها الطبل.

رجل يبر والديه في ظلام الليل، ورجل يحسن إلى عامل عمل عنده ثم ذهب وترك أجره، ورجل انفرد بامرأة حتى قدر عليها فذكرته بالله فقام وتركها مخافة الله تعالى.

ومن هذا الباب أيضا ما جاء في حديث الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى. والذي رواه النسائي وغيره عن أبي ذر، عن صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَلَاثَةٌ يَبْغُضُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَهُ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي، وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ).

وحينما ننظر إلى الجامع لهذه الأعمال بعد الإخلاص تعالى نجده الخفاء والسر، فهي أعمال خفية لا يكاد يطلع عليها إلا صاحبها أو هو ومن فعلت معه، ولم يعرف بها أحد من الخلق.

فعبادة السر وطاعات الخفاء أجل القربات، وأعظم ما تفرج به الكربات، وتسمو به الدرجات وتكفر به السيئات، وهي زينة العبد في خلوته، وزاده من دنياه لآخرته ودار كرامته.

ولهذا كان هذا النوع من العبادة أشق ما يكون على المنافقين، وأصعب ما يكون على الكذابين، ولا مكان له عند المدعين المرائين، لأن المرائي إنما يعمل ليراه الناس، ويحسن ليمدحوه أو يحمدوه، والمؤمن الصادق إنما يريد وجه الله فيجتهد أن يخفي عمله عن المخلوقين.

جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان يسأله: هل أنا من المنافقين؟

قال: أتصلي إذا خلوت، وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم.

قال: اذهب فما جعلك الله منافقا.

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء:142).

وقد حث الله عباده على هذا النوع من العبادة ورغبهم فيه فقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةًۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف:55)، وقال في السورة نفسها: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}.

ومن هنا كان السلف يستحبون أن يكون للعبد خبيئة من عمل صالح لا يعرفها أحد، كما حكي الخُرَيْبِي عنهم قال: “كانوا يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها”.

الثابت عن سلف الأمة أنهم كانوا يتحرون أشد التحري في إخفاء العمل حتى قال بعضهم: “لا أعد ما ظهر من عملي شيئا”.

وكان محمد بن واسع يحلف بالله كذا وكذا مرة، لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، خوفا من الرياء.

وكان علي بن الحسين يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرّبّ.

وكان يكفل مائة أهل بيت في المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *