إن معرفة الناسخ والمنسوخ من نصوص الكتاب والسنة أس من أسس الفقه الرشيد، وواحد من أهم المباحث الأصولية باتفاق الأئمة، والجهل به سبب من أسباب الخطأ، وأحد أعظم المواضيع التي يثيرها المخالفون للكتاب والسنة من علمانيين وقاديانيين وشيعة رافضة قصد الطعن في الشريعة، وقد أحببت أن أضع يد القارئ الكريم على بعض أهم المباحث والفصول في هذا الباب العظيم حتى يعرف أن أهل العلم قد بذلوا جهدا عظيما في بيان معالمه واستقراء مباحثه والتحقيق في مسائله جزاهم الله خيرا.
وأجعل هذا الموضوع كالتنبيه على محاولات قديمة وحديثة للطعن في الشريعة بدعاوى كثيرة متنوعة تحت مسميات مختلفة كقولهم بالتاريخية أو التاريخانية.. أو إعادة النظر في قراءة النصوص الشرعية.. وقصدهم بذل الوسع في إفراغ النصوص من مضامينها إن لم يستطيعوا الطعن في صدقها وصحتها.. تعددت الأساليب والقصد واحد.
فهذه ثمانية مباحث في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم أجعلها بين يدي القارئ الفاضل والقارئة الفاضلة كأنها معلم على ما هو أوسع وأكبر والله الموفق.
1- الفرق بين النسخ والتخصيص
كان المتقدمون من أهل العلم يطلقون النسخ أحيانا على التخصيص وعند الشاطبي بيان ذلك بالتفصيل في الموافقات ولأجل ذلك كانت طريقة ابن العربي في كتابه التفريق بين النسخ والتخصيص فيقول مثلا في سورة النساء: (فيها تسع وعشرون آية، ثلاثة نسخ وباقيها تخصيص!) وقد ذكر العلماء الفروق بينهما في اصطلاح المتأخرين وأوصلوها إلى ثمانية عشر فرقا منهم بدر الدين الزركشي في البحر المحيط (2/394/العلمية).
2- نسخ جميع القرآن ممتنع
قال ابن العربي المعافري (الناسخ والمنسوخ 2/7 تحقيق د.عبد الكبير العلوي المداغري): (ظن قوم أن النسخ في جميع القرآن.. وهو باطل والذي أوقعهم فيه قوله تعالى (الإسراء:86). وهذه الآية من المشكلات وقد استوفينا النظر فيها في كتابها).
وقال بدر الزركشي في البحر المحيط (3/179/العلمية): (يمتنع نسخ جميع القرآن بالإجماع، كما قاله الإمام الرازي وغيره).
3- آية السيف
هي من أشهر الآيات الملقبة في باب الناسخ والمنسوخ في القرآن وهي قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
وشهرتها نابعة من كونها ادعي فيها أنها نسخت كثيرا من الآيات في القرآن الكريم، فقد نسخ بها ابن حزم وهبة الله بن سلامة الضرير مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة، وجعلها أبو خزيمة الفارسي في الموجز ناسخة لخمسين آية، وزعم البارزي أنها نسخت فقط ثمانية مواضع في سبع سور!! وقال في آخر كتابه نقلا عن جمهور المتأخرين: (لا ينسخ بآية القتال إلا ما فيه نهي عن القتال… لأنه قبل الأمر بالقتال لم يكن قادرا عليه، فلا يصح النهي عنه).
وقد قرر الصواب في آية السيف ونسخها لجملة من الآيات العلامة بدر الدين الزركشي في البرهان في علوم القرآن تقريرا حسنا وأتى بالجيد من التوجيه حيث جعل الآيات التي زعم نسخها من قبيل المنسوء لا المنسوخ، وفرق بين النسأ والنسخ محتجا بقوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) وقال في خصوص هذه الآية: (ليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا).
4- النسخ الصحيح في القرآن
اتفق العلماء على وجود نسخ في القرآن، فقال ابن الجوزي في النواسخ: (انعقد إجماع العلماء على هذا إلا أنه قد شذ من لا يلتفت إليه) منهم أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المفسر المعتزلي المترجم في معجم الأدباء وبغية الوعاة فمنعه أيضا خلافا للواقع والشرع.
قال النحاس: (من المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ، وكابر العيان، واتبع غير سبيل المؤمنين).
ونفته مطلقا من الشرائع طائفة الشمعونية من اليهود، ونفت أن يكون هناك نسخ لأنه بداء، وهم محجوجون بالتوراة. وقالت باطنية الرافضة بالبداء على الله تعالى، ومنهم المختار بن أبي عبيد الله الثقفي الكذاب كما عند الشهرستاني وغيره!!
وحصر الدكتور مصطفى زيد رحمه الله -وهو أستاذ بقسم التفسير بالجامعة الإسلامية سابقا- النسخ في القرآن في ست مواضع فقط، وحصرها السيوطي في الإتقان في عشرين موضعا والدهلوي في خمسة.
5- دعاوى النسخ في القرآن
أكثر العلماء من دعوى النسخ في كثير من المواضع بغير دليل، وأكبر عدد ذكر مائتان وتسعة وأربعون عند البارزي في كتابه (ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه). قال فيه محققه الدكتور حاتم صالح الضامن: (يمتاز كتاب ابن البارزي بأن عدد المواضع المنسوخة فيه هي مائتان وتسعة وأربعون موضعا؛ وهو بهذا العدد الكبير يكون قد فاق سابقيه واللاحقين عليه من الذين سلف ذكرهم).
6- نسخ القرآن بالسنة
ذهب الشافعية إلى المنع من ذلك، ومثلهم ابن حزم رحمه الله في الإحكام، واختار ابن تيمية في الفتاوى أن ذلك جائز إلا أنه لا يوجد، وما زعم فيه أن السنة نسخت القرآن فإن حقيقته أن آية أخرى نسخت والحديث تابع لها وليس أصلا في ذلك.
وقد ذكروا ثلاث آيات زعموا أنها نسخت بالسنة لا القرآن، ذكرها البارزي مجتمعة في كتابه وهي: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) بحديث: (لا وصية لوارث) وقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ..) بحديث: (أحل لنا ميتتان ودمان…) وقوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بحديث: (الثيب بالثيب جلد مائة ورجم..).
وأجيب عن الأولى بأنها نسخت بآية: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ..) وعن الثانية بأنه تخصيص وليس نسخا وعن الثالثة بآية: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي..).
7- الإسراف في دعوى النسخ
أسرف كثير من الفقهاء في دعوى النسخ وقد ناقش ذلك السيوطي رحمه الله في الإتقان وأحمد ولي الله الدهلوي صاحب الحجة البالغة في كتابه (الفوز الكبير) في علوم القرآن.
8- بيبليوغرافيا الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
وهذه بعض المؤلفات في الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لم أقصد فيها الاستيعاب.
– الناسخ والمنسوخ في القرآن عن ابن شهاب الزهري لأبي عبد الرحمن الحسين بن محمد – مؤسسة الرسالة.
– الناسخ والمنسوخ في كتاب الله لقتادة بن دعامة السدوسي (117) – مؤسسة الرسالة.
– معرفة الناسخ والمنسوخ لمحمد بن حزم الأندلسي.
– الناسخ والمنسوخ في كتاب الله لأبي جعفر أحمد بن محمد النحاس (338) في ثلاث مجلدات طبع مؤسسة الرسالة وهو كتاب مسند في الغالب يذكر خلاف العلماء وأحيانا يرجح إحداها.
– الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة الضرير (410 هـ) وهو مطبوع مع أسباب النزول للواحدي طبعة عالم الكتب ببيروت.
– صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد الحنبلي الملقب بـ(شعلة) (656 هـ) وقد ترجم له الذهبي في السير.
– الناسخ والمنسوخ لأبي منصور عبد القاهر البغدادي (418 هـ) وهو كتاب مهم.
– الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (437 هـ) ولا يقل قيمة عن كتاب النحاس غير أنه لا يسند.
– الناسخ والمنسوخ في القرآن لابن العربي المالكي (543 هـ).
– ناسخ القرآن ومنسوخه [حسن سليم] أو (نواسخ القرآن؛ محمد أشرف المليباري) لابن الجوزي (597 هـ).
– ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لهبة الله بن عبد الرحيم شرف الدين ابن البارزي (738 هـ) مؤسسة الرسالة.
– قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (1033 هـ).
– الآيات المنسوخة في القرآن الكريم لعبد الله بن الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي.
– النسخ في القرآن الكريم للدكتور مصطفى زيد رحمه الله.
– فتح المنان في نسخ القرآن لعلي حسن العريض الأزهري ولم يستوعب.
كتب لا يعرف لأصحابها ترجمة
وهي كتب لا أعرف أسماء أصحابها منها:
– الموجز في الناسخ والمنسوخ للمظفر بن الحسين الفارسي يزعم فيه أنه استخرجه من خمسة وسبعين كتابا وهو مجهول لا أعرف صاحبه والكتاب مطبوع مع كتاب النحاس الطبعة المصرية.
– الناسخ والمنسوخ لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الإسفراييني وهو مطبوع مع لباب السيوطي وهذا الإسفراييني مجهول لم أعرفه.
كتب في نظرية النسخ
– نظرية النسخ في الشرائع السماوية؛ للدكتور شعبان محمد إسماعيل الأزهري طبع دار السلام.
– النسخ بين الإثبات والنفي؛ للدكتور محمد محمود الفرغلي.
– النسخ في الشريعة الإسلامية كما أفهمه؛ لعبد المتعال الجبري أنكر فيه صاحبه وجود نسخ أصلا في الكتاب والسنة وهو رسالة صغيرة وقد رد على شبهاته صاحب كتاب (النسخ بين الإثبات والنفي).
– وللنحاس كتب ثلاثة مشهورة لها علاقة بالقرآن الكريم: إعراب القرآن والقطع والائتناف ومعاني القرآن والناسخ والمنسوخ.