بعد استقلال المغرب تم تأسيس لجنة لتدوين القوانين بيد أنها اكتفت بإنجاز مدونة الأحوال الشخصية، وبقيت القوانين الصادرة من قبل سلطات الحماية وآليات تنفيذها سارية ليوم الناس هذا مع تعديلات اقتضتها مصلحة النافذين من الذين استفادوا كما قال المحامي الشهير “شارل لوكران” الذي كان يدافع عن المقاومين في كتابه المعنون بـ”أيتها العدالة يا موطن الإنسان” قال: “هناك من يتعرض للأخطار دفاعا عن الوطن والحرية والمساواة، وهناك من يستفيد من المغانم المترتبة عن تلك التضحيات.
فالذين أرجعوا محمد الخامس لوطنه لا رجال السياسة ولا العلماء في المناورات، ولا المختصون في الزيارات، تلك القوى الضرورية المحترزة؛ إن الذي أرجعه لوطنه هو العامل، هو “الطرّاف”، هو “الخباز”، هو “بائع النعناع والفاخر”، هم أولئك المتواضعون الذين تركوا عملهم في يوم من الأيام وغادروا عائلاتهم للنضال بإخلاص في سبيل وطنهم وملكهم، فتعرضوا للاعتقالات التعسفية وأعمال العنف والتفتيش الحيواني الدنيء، وأذيقوا صنوف العذاب، ومع ذلك بقوا صامدين من أجل الدين والوطن والملك، هذا الملك الذي رجع من محل مصرع الشهداء” انتهى منه.
بيد أن أبطال تلك المرحلة لم يشهدوا تحقيق ما كنوا يطمحون له من كرامة وعزة بعد عودة الملك وتحقيق الاستقلال،؛ فالعنف المادي والرمزي الذي قال عنه مناضلو اليد السوداء في المحكمة سنة 1954 من أنه لن يدوم لتحقيق الاستقلال تواصل مع الأسف بأشكال مختلفة لتحقيق الهدوء كما قال “لكوسط” المقيم العام.
وتحرير المحاكم من قوانين الحماية اعتداء وتعكير للهدوء يقتضي العقاب خاصة إذا ما وضع كلام رئيس المحكمة العسكرية بالرباط 1954 من “أن فرنسيي المغرب مغاربة، خاصة وأنهم هم من أعطى للمغرب حسب زعمه ضميره الوطني وأيقظت ثروته وخلقته كوطن” (ص:88)، فما بالك بالمغاربة المتفرنسين؟
فبقاء المحاكم والإدارة بصفة عامة فرنسية وإن تعرب جزء منها لم يعد للمجاهدين والشهداء في سبيل استقلال البلد وعزة رموزه وكرامة مواطنيه؛ لذلك بقيت المحاكم تمارس الدور القهري الذي ظهر مع نظم الحمايات، حيث كان المحمي لا يخضع لقوانين البلاد، معفى من الضرائب والغرامات، يجير ولا يجار عليه، وتحول القاضي من فقيه يحترم لمكانته وقدره إلى موظف يحميه المخزن من الناس ولا يحميه منه، إن لم يخضع لمن هو أكثر سلطة منه، ولم يعد القاضي ملزما بالخضوع للقانون الذي كان هو القرآن والسنة وما تفرع عنهما والذي كان قوته في وجه كل من تجرأ عليه وعلى أحكامه، بل ما دونه ليوطي الذي ما زالت قوانينه ورسوم تطبيقاتها أساس من أسس القانون الساري يومه، وافتح إن شئت القانون العقاري الجديد فستجد توقيع ليوطي عليه ولا كرامة للشهداء.
فلا غرابة إذن أن يعطي القضاة ظهورهم لآية العدل المسطرة خلفهم والمواجهة للمتقاضين تذكرهم بأن الجالسين للبث في الحقوق هم مقدسون بحكم ما وراءهم من آية قرآنية وصورة عاهل البلد بمعنى أنهم غير محتاجين لهم، وأنه لن تطالهم القوانين بحكم تلك الحصانة.
وهو وضع ينسحب عن المكان المحروس والذي لا يدخله الناس إلا مرعوبين ما عدا السلاطين، لأن المغرب الذي ضحى من أجل أن يكون للجميع صار الناس فيه إما مواطنين أو سلاطين، الأوائل متهمون مهضومو الحقوق مهانو الكرامة، والأخيرون مقضيو الحوائج إما بالزبونية أو المحسوبية أو الرشا أو القوة القاهرة، وهي خطط أرستها الحماية لجعل المغرب مسكنا للغارمين والغانمين وبينهما وسطاء يسهلون عمليات التبادل سَمَوهم الموظفين على طبقاتهم المختلفة ونوعياتهم، ومنهم موظفو العدل المقدسون الذين لا يحاسبون عن الأخطاء المقترفة من قبلهم والتي يوكل للدولة أمر تدبيرها.
ومن ذلك تنفيد الأحكام والتماطل في إصدارها والعمل بالاجتهاد كما قال كل من رئيس نادي القضاة والودادية في أكثر من 60 في المئة من القضايا مما يعني ضياع حقوق من لا بواكي له.
يكفي القول مثلا بضياع المستندات والملفات دون حسيب ولا رقيب، أو أن يجعل المنفذ عليه طالب للتنفيذ قصد افتعال صعوبة تعدل أحكاما قضائية كما فعل مأمور إجراءات التنفيذ بحد كورت مؤخرا، ويصرح الخبير الوادي من القنيطرة بأن وثيقة لا يوجد بها حدود ولا اسم العقار أو أن فلانا ليس هو المطلوب للمحكمة وغير ذلك من الممارسات المنقولة عن المعمرين ومن شايعهم.
كتب مخبر بالدار البيضاء للسلطان عبد الحفيظ يقول: “لقد ظهر من القاضي والناظر العجب في شتم الجناب الشريف، فالقاضي سمسار عند “بوني” الطنجي الفرنساوي والناظر عند “اللآم” الإنجليزي، ولئن لم يبادر مولانا ويعزلهما فسيبيعان بقية ما تركا من أملاك المخزن والأحباس، والقاضي مشتغل بشرب الخمر والفسق ويكمي الكارو بالمحكمة والناس ينظرون” (2 فبراير1910؛ علال لخديمي “المغرب في مواجهة التحديات الخارجية”).
ترى من يستطيع القول مثل هذا في قضاة الوقت وموظفي العدل؟
بل من يستطيع المطالبة فقط بفحص سلامة القضاة وموظفي العدل النفسية والبدنية، ودراسة سلوكاتهم الاجتماعية، وربط الكيفية التي يديرون بها الجلسات ومناقشة المواطنين والتعامل معهم؟
ومع أن القانون يقول بأن البراءة هي الأصل إلا أن واقع المحاكم يقول العكس، فالذي يرتاد المحكمة من المواطنين متهم يلاقي صنوفا من المهانة حتى يفلت من قبضتها والعاملين بها.
فهل يأتي قانون السلطة القضائية لتحرير المحاكم المغربية من المنظومة الاستعمارية، وتعود الكرامة للمواطن وتستلهم من ظاهرة الاحتجاجات التي تضع صورة الملك في المقدمة لمواجهة الأمن، والقرآن في اليد لمواجهة المستعمر، كما كان في المسيرة الخضراء، وبدل أن يوضع حد للقلب الذي مورس عليه منذ دخول الحماية حيث جعل المستعمر المواطنين في مواجهة الدولة ورئيسها، وليست الدولة في خدمة المواطن، وترجمت ذلك في القول بأن الحماية جاءت لحماية النظام من فوضى الأوباش.