هناك عبارات ومباني وألفاظ خرجت من أفمام حكماء وخطتها يد علماء وغيورين صلحاء، كتب الله لها الذيوع والدوام والانتشار والاستمرار، وكأنها الوحي من السماء، أو حقائق متشبعة بأنفاسه، ومثل هذه العبارات لا تخرج إلا من كنف الفتن والأزمات ولا يسمع استهلالها إلا في مخاض المدلهمات، تخرج لتنفذ من أقطار الأرض والأزمنة والأوقات، بل لتستوعب ما وراء حجب القرون الآتية والعقود المستشرفة، ولتربط الأسباب بالمسببات وتعطف مستبقة إجمالات النتائج والمحصلات، ولتكون المفتاح لما استغلق فهمه وأُوصد وضعه…
ولا زلت في هذا الصدد حينما أسافر سفر القصر قاطعا بالتفكير والتأمل الثقيل الحمل فيما حلّ بأمتي الموصولة بالله -وسطا وخيريةـ من نكبات وانتكاسات مترادفة وأزمات مسترسلة في غير لغوب ولا وصب، مستدبرا عمرانها الخرب، مستثقلا حاضرها الكئيب، مستقبلا ماضيها المشرق الوهاج.
أقف في سفري ذلك وقفة إجلال وإكبار لأتأمل ببصيرة متفرسة تلك الكلمة والعبارة الضاربة في عمق الاجتماع، المليئة بالحكمة والواقعية والمكاشفة، تلك المقولة التي جعلها ابن خلدون عنوانا للفصل الثالث والعشرين من مقدمته والتي يحكي من خلالها كيف أن المغلوب مولع أبدا (دائما) بتقليد الغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، سابقا في الكشف عن العلاقة المباشرة بين المغلوبية العسكرية والسياسية وآثارها ولازمة متبوعاتها في ميادين العلم والثقافة والفكر والعادة والإلف والنحلة والعرف، معبرا من خلال هذا التصريح المتجدد السخونة عن قوته الفكرية في تشخيص ما أصاب الأمة وما يمكن أن يصيبها من ضعف ووهن وتبعية مشبعة بالتقليد والاستدراج المدخل لجحر الضب، وإشاعة ثقافة هذا الدخول واستمرائه ومأسسة تمظهراته في صفوف النخبة قبل جمهرة العامة والدهماء إلى الحد الذي يستطيب معه الكل الشعور بالضعة والدونية.
فيتحول هذا الشعور والاستمراء إلى ولع له لوازم ومقتضيات في الحياة الخاصة والعامة للمغلوب المنهزم، يحصل ذلك ويتكرر كلما عاشت الأمة نقاهة ما بعد التداعي والهزيمة، لقد قرر هذا ابن خلدون وكأنه نبوءة لا تنطق عن الهوى مستثمرا وقارئا محترفا لمحيطه وتاريخه المعاصر، ولننظر تقريرا لهذا وإقرارا له كيف أطل العلامة ابن خلدون على ما وراء الأكمة الزمنية التي راوحت المئتي سنة قبل سقوط دولة الإسلام بأرض الأندلس بقوله حاكيا: “كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالق، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر عن ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله” انتهى كلامه رحمه الله…
وللمرء بعد هذا الكلام النفيس وهذا الإلهام الذي صدّقته الأحداث بعد حين أن يجيل النظر في الشارع العربي الإسلامي، له أن يرسل البصر الكرة والكرتين في دروب الحياة المعاصرة للمسلم في بيته، وفي مقر عمله، وفي مدرسته وجامعته، وفي شأنه كله، ليرجع هذا الإرسال مليئا ناضحا مزدانا بصور الانغماس والتماهي والانسراب في تقليد الغالب، والفزع إلى تبني أنماط حياته وسلوكه ورعونته، بل الولع بمحاكاته وتسليم النواصي والرقاب إلى مدنيته حد الاستعباد والاستغراب والاستخراب…
ويا ليت هذا الولع وهذا الأسر والمتبوعية تجاوزت في غيّها وضلالها فُضلة القشر إلى لب الاقتداء بهذا الغالب فيما وصل إليه من تفوق مادي وقوة رادعة، فإنما العدل أن لا نبخس الناس أشياءهم، ولكنك وللأسف، ولكبير القرف تجد جمهورنا الضارب في الطول والعرض والعدد من شبابنا وكهولتنا مستمالا كل الميل في تقليده للآخر بدءا من الزي، فمخاريق الثياب، وتراجيل الشعر، وبطش الأيدي، ووشم السواعد والأكتاف، ورفع الأصوات المنكرة، والتحدث بلغة غالبه في غير مناسبة وفي غير سياق يدفع لذلك ويستدعي له…
مستمالا كل الميل يقلد لاعبا أو يحاكي مغنيا أو يحب ممثلا فيشخص سيرة هذا السوى وهذا الغير على الحصر في ميادين اللهو واللعب والإتراف، يمارس هذا النوع من الولاء غير واع ولا ملتفت لحجم الاغتصاب القهري الذي هيأته له النخبة باسم التحرر والمعاصرة، فيحسب وهو يجادل بغير علم ولا كتاب منير أنه يمارس هذا العته والولغ بمحض إرادته المثقفة الواعية، بينما كل المعطيات تحكي حقيقة أنه صار كالفئران الفتية في مختبر المشرحين والمجربين للأدواء والشرور في غير أجسادهم، بل حماية لذواتهم المتسامية في قهر وعنصرية، فلا يكاد يتحرك المسكين إلا في دائرة هذا الإحكام والانضباط الذي يسمح به معشر من يعتقد في مدنية الآلة والعرق الإنساني الدوام والخلود، بينما هي في مسمى الحضارات وماهيتها لا تملك مقومات البقاء ولا حتى تحدي مهددات الزوال.
ولننظر إلى علاقة العربي المسلم مع مكونات هويته ومحدداتها، وكيف أنه في معظم بل كل الجغرافيا العربية الإسلامية قد ضيّع علاقته وصلته الحميمية والشعورية بتأريخه الهجري طيلة فصول السنة، مع ما يشكله هذا التأريخ من دلالة رامزة إلى قوة انتسابه وحقيقة انتمائه من عدمها، فتجده لا يكاد يسترجعه إلا بعدّه على مكرهة لانصرام أيام الصيام من الشهر الفضيل، ثم ما يلبث أن يضيعه في شوال وذي القعدة إلى أن تأزّه حركة الجيب والعد والاستعداد لمصاريف أضحية العيد، وذلك آخر عهده به إلى حين موفى شعبان من السنة الهجرية المقبلة.
ولك أن تسأل حتى لا نتهم بالرجم بالغيب وأنت تسير على درب أطول شارع في أعرق مدينة وأقدم بلاد من تصادفهم يتقاسمون معك المشي في مناكب هذه الأرض من الرجال والنساء والشباب والولدان والعوام والمثقفين عن ماهية السنة الهجرية ورقمها الحالي ناهيك عن اليوم والشهر منها، لتسمع الموبقات وتعود خاسرا نادما، وتقعد مذموما مخذولا…
ولك أن تزور عين الشارع في عين المدينة من نفس البلاد وقد تزينت الشوارع وأنارتها الأضواء بالنهار تزاحم شمس الشتاء الخافتة، وتنمقت واجهات المحال التجارية ونبتت سواقي الكلمات المهنئة والمحتفية بمقدم رأس السنة الميلادية، واستبدل المسلم أحسن التحية بأدنى التهنئة، وترادفت التبريكات والأدعية والابتهالات على حافظة الجوالات الشخصية، وأخذت الأرض زخرفها وتنمطت الجدران والبيوت والأسقف بأنماط من الزينة غير المعهودة، وأسرف المسلمون الذين يتعبدون الله ب :”قل هو الله أحد” في إنفاقهم على ميلاد ثالث الثلاثة، ودب الناس في الأرض بحركة غير اعتيادية يشترون ويستهمون في اقتناء شجرة “الكريسميس” ويبادرون إلى حجز الطلبات بتوصيات ودفع المقدم من النقود إلى أصحاب المخابز العصرية رجاء حصولهم على حلوى العيد الكبير والاحتفال المنتظر والمنشود، ويتسابقون في شراء أقنعة العم سام والبالونات المحجمة في الأشكال الهلامية للأب نويل، وملابسه الحمراء الشتوية، والسروج والشموع الملونة…
لقد احتفل المغلوب إذا بطقس الغالب وأجاد فيه وأنفق وأهدر بجود وسخاء غير معتاد ولا مألوف ولا مشاهد حتى عند من كفروا بقولهم: “إن الله ثالث ثلاثة” وقولهم: “إن الله هو المسيح ابن مريم”.
وللمنصف أن يتذكر على سبيل المثال لا الحصر كيف أن دبي كانت تستقبل العام الميلادي الجديد بعروض ضوئية وألعاب نارية باتت من أشهر معالم الاحتفالات برأس السنة حول العالم، وهي التي تنتمي للأمة المكلومة المستضعفة التي اغتصب الغالب عرضها وأرضها، وسبى نساءها، وذبّح أبناءها، وهدم مساجدها، وسرق آثارها، ودمر معالم حضارتها وفعل فيها ما لا يستطيع الوباء القاتل أن يفعله في أجساد هلكاها…
فيا ليت ابن خلدون وهو يخط بيمينه تلك العبارة الضاربة في طنب التاريخ كان يعلم أو يعرف استشرافا أن ذلك الولع الذي قيّده بلفظ “دائما” أو “أبدا”، عاد وانقلب بعده بأمد بعيد، والأمة تعيش عين الضعف والوهن والتبعية، انقلب إلى شرعة ومنهاج يقاس بكفتي ميزانه المطفف: التحضر من عدمه، والتطور من عدمه، والتمدن من عدمه، والتوسط من عدمه، والاعتدال من عدمه، والتطرف من عدمه، بل التدين من عدمه، وقائمة المعطوفات من الموزونات تحكي بمداد من ألم ومسترسل أنين حجم المعاناة وجِرم المأساة و”الأمر لله” كما ذيل ابن خلدون عبارته الاستباقية المؤشرة على ذلك السقوط قبل وقوعه بمئتي عام أو يزيدون.