لقد حرصت الشريعة الإسلامية أيما حرص على تربية النشء التربية السليمة المتكاملة، مراعية بذلك جوانب شتى من أجل تكوين شخصية المسلم المتوازنة، ومن أهم جوانب تنشئة الأطفال الجانب النفسي والعاطفي، خاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه طغيان المادة على حياة الناس وعلاقاتهم وسلوكياتهم.
والملاحظ لمنهج السلف الكرام يجد اهتمامهم الكبير بالتربية النفسية للطفل في أمور عديدة ومسائل متنوعة. ومن هذه الأمور تربية الطفل بالحب والحنان فعن أسامة بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أنه كان يأخذه والحسن فيقول، اللهم إني أحبهما فأحبهما”. رواه البخاري رقم3735
يقول الشاعر:
وإنما أولادنا بيننا °°°° أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم °°°° لامتنعت عيني من الغمض
ومنها تربية الأطفال بالرحمة والرأفة ومن ذلك تقبيل الطفل وضمه فلذلك دور فعال في تحريك مشاعر الطفل وعاطفته وتسكين ثوراته وغضبه، بالإضافة إلى الشعور بالارتباط الوثيق في تثبيت علاقة الحب بين الكبير والصغير، وتزيد من تفاعل الطفل مع من حول فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “قدم ناس من الأعراب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أتقبلون صبيانكم فقال: نعم، قالوا: لكنا والله لا نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟”. أخرجه مسلم برقم 2317.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة إلى عائشة -رضي الله عنها-، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل صبي لها تمرة، وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين ونظرا إلى أمهما، فعمدت إلى التمرة فشقتها، فأعطت كل صبي نصف تمرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة فقال: “وما يعجبك من ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صبييها”. رواه البخاري في الأدب المفرد رقم89 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد بنفس الرقم.
وحمل الطفل مما يعبر عن الرحمة به قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: “لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه” رواه البخاري 1798.
ومن هذا العطف الأبوي الدفاق قول بعضهم:
إذا ليلة ضاقت بالسقم لم أبت °°° لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي °°° طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى لنفسي عليك وأنها °°° لتعلم أن الموت وقت المؤجل
ومن الأمور المهمة في التربية العاطفية، المداعبة والممازحة مع الأطفال، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: “يا أبا عمير ما فعل النغير” وكان له نغير يلعب به فمات. رواه البخاري رقم 6129 ومسلم رقم 2150
والنغير: طائر يشبه العصفور أحمر المنقار.
فهذا مما يولد لدى الطفل شعوره بلذة الرحمة والحنان والحب والعطف، وما ذلك إلا اهتمام به وإدخال السرور إلى قلب الطفل.
ومن تلك الأمور أيضا المسح على رأس الطفل فعن جابر بن سمرة -رضي الله عنهما-قال:” صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهما واحداً واحداً، قال: وأما أنا فمسح خدي قال: فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار”. رواه مسلم رقم 2329.
ومن تلك الأمور المهمة صحبة الطفل ومرافقته فبها تتهذب نفسه، ويتلقح عقله، وتتحسن عادته، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصحب الأطفال في كافة الميادين والمناسبات والمحافل، ومن ذلك صحبته لابن عباس -رضي الله عنهما- كما قال: “كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم”.
ومن أهم ما يقوي نفسية الطفل كذلك، زرع التنافس البناء بين الأطفال ومكافأة الفائز منهم لأن ذلك يحرك الطفل أنه ذا مشاعر وطاقات قوية فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن من شجر البوادي شجرة لا يسقط ورقها، وإنها المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: وقع في نفسي إنها النخلة. ثم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هي النخلة»”. رواه البخاري رقم 61.
وكذلك التنافس الرياضي بين الأطفال فعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُفُّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا مِن بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَقُولُ: “مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا” ، قَالَ: فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ، فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُم”. رواه أحمد في مسنده رقم 1766.
ومن ذلك المدح والثناء فله أثر فعال في نفسه، فهو يحرك مشاعره، وأحاسيسه، فيسارع الطفل إلى تصحيح سلوكه، وأعماله، وترتاح نفسه، وتتتابع في النشاط، وتستمر به، وهذا الأمر يظهر جليا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذا بي، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع فقصصتها على حفصة، فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا. رواه البخاري رقم 1121.
وكذلك تنمية ثقة الطفل بنفسه وتحميله المسؤولية بالاعتماد على النفس.
فعن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم -: رأى غلاماً لا يحسن سلخ الشاة، فقال له: تنحَّ حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى. رواه أبو داود185وابن حبان في صحيحه رقم1185.
ومن ذلك حسن النداء للطفل والملاطفة في مخاطبته فهذا لقمان عليه السلام ينادي ولده بلطف ولين كما قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ” لقمان13 .
قال ابن عاشور: “بني” تصغير (ابن) مضافا إلى ياء المتكلم والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة”. التحرير والتنوير2-156
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي ابن عباس -رضي الله عنهما- باحترام فيقول: “ياغلام احفظ الله يحفظك…” الحديث.
ومن ذلك تحسيس الطفل أن له أهمية وقيمة وعدم احتقاره فعن أنس -رضي الله عنه-: “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على غلمان فسلم عليهم”. صحيح مسلم رقم 2168.
وكان ابن شهاب الزهري -رحمه الله – يشجع الصغار ويقول: “لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم”. رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 85.
ومن ذلك الاحترام لقرارات الطفل واختياراته فقد كان من عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يقدم من على يمينه في العطاء وغيره سواء عنده في ذلك الصغير والكبير حتى يستأذن الصبي الذي على يمينه إذا أراد أن يعطي الكبير، فقد ذكر سعد بن سهل الساعدي “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتي بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ، قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله، فأعطاه إياه” البخاري رقم 2351 ومسلم رقم 2030.
فهذه بعض الأساليب التي تركز على الجانب النفسي للطفل، والتي تعين أولياء الأمور على توجيه الأطفال التوجيه السديد، لتكوين شخصية الطفل وتكاملها واتزانها حتى يستطيع أن يكون شخصا نافعا لدينه وأمته ووطنه.