التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة الحلقة الرابعة أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

نواصل -إن شاء الله- من حيث انتهى بنا المقال السابق انطلاقا من تساؤلنا عن سر حرص المتصوفة وتواصيهم الشديد على كتمان سر يتداولونه فيما بينهم بتواطئ عجيب على عدم البوح به. وذلك بحثا منا عن حقيقة هذا السر، وعن ماهية طبيعة هذا الخطر الرهيب الكامن في مجرد التصريح بما يسرونه بينهم.
وهذا الهول الرهيب الذي أجزع قلوب المتصوفة، بل وأفزع أرواحهم حتى أحوجهم الأمر إلى التناجي سرا بينهم، والجنوح المفرط في استعمالهم أسلوب الألغاز والرموز والإشارات. وبقدر ما تثيره سريتهم هذه من الحذر الشديد والحيطة المضاعفة والاحتراس الدائم، بقدر ما تثيره من الرغبة والشوق إلى المعرفة والاطلاع على حقيقة سرهم المخبوء في كلامهم، وغلو حرصهم على كتمانه بينهم بدعوى -كما سبق بيانه في غير هذه الحلقة- أنهم أصحاب مكاشفات، وأهل علم لدني يأخذونه بمحض العناية الإلهية ويتلقونه من الحي القيوم بلا واسطة.
الكشف عن سر السرية المفرطة عند المتصوف
إنه صدقا أمر جسيم حيث يتعلق بالكشف عما وراء نجواهم من سر غامض دفين، يلقي علينا من الضوء، ويشيع علينا من الحقيقة، ما يرفع عنا بعض ما أشكل علينا من معرفة دوافع خشية المتصوفة وتحرجهم من التصريح بحقيقة مرادهم.
لكن من المتصوفة كلسان الدين ابن الخطيب -الصوفي الكبير- من أبى إلا أن يتفضل علينا ويتكرم، بأن رفع عنا من أغلال مصطلحاتهم، وحط عنا من أثقال إشاراتهم وألغازهم، ببيانه سر مُضِيِّهم في هذا السبيل. وذلك بقوله: (..وثالثهما خاصة الخاصة ويختص به من علوم الشريعة علم الحد… وعلم الإلهام والعلم اللدني والموهبي والإلهي…، وهو علم النبوة… وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه ولا إذاعته ولا ادعاؤه، ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه…)(1).
وهذا الغزالي حجة الصوفية يكشف بدوره سر خيارهم مسلك السرية بقوله: “والمراد بهذا العلم الذي يستحلون به دمه، هو العلم اللدني، الذي هو علم الأسرار…”)(2).
وبمثل قوله هذا قال السهروردي المقتول(3)، وأبو مدين الغوث المغربي(4)، وكذا قال به ابن عجيبة صاحب كتاب (إيقاظ الهمم في شرح الحكم). هذا الكتاب قد اعتمده المجلس العلمي الأعلى مرجعا في دروس التصوف السني، ضمن “برنامج تأهيل أئمة المساجد في إطار خطة ميثاق العلماء”. أنظر البطاقة 1(18) من البرنامج تحت عنوان مبادئ عامة في التصوف -أ-.
هذه المعلومة يجب استحضارها كلما نقلت كلام ابن عجيبة، وذلك للتحقق من مصداقية دعوى الجهات الرسمية المختصة بالحقل الديني؛ أن التصوف السني ببلادنا مستمد من القرآن والسنة. حيث كان من قول ابن عجيبة في بيان سر اهتمام المتصوفة بأسلوب السرية قوله: “فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه، التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم وقليل ما هم، ومن أفشى شيئا من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، وتعرض لقتل نفسه”(5).
وهذا أحمد التجاني دفين مدينة فاس شيخ الطريقة التجانية، يحدثنا عن نفسه بقوله: “لو بحت بما علمه الله لي لأجمع أهل العرفان على قتلي”(6). وبمثل قوله قال الإمام السرهندي: “لو أظهرت شمة من تلك المعاملة التي هي مربوطة بتلك الولاية قطع البلعوم وذبح الحلقوم”(7).
حقيقة السر المكنون عند المتصوفة
إذن هكذا هي القضية، لقد صار الأمر الآن بفضل الله ظاهراً، حيث ما يثير الانتباه في نقولهم هذه هو أن سر تآمر المتصوفة على الكتمان، هو وجود شيء في تصوفهم إفشاؤه يستوجب قتل من كشفه واستحلال دم من أظهره وأعلنه.
سر إفشاؤه يستوجب القتل؟!!!
هذا لغز أصعب من سابقه.
جاء في كتاب (إحياء علوم الدين) قول الجنيد إمام القوم: “أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم أشياء هي كفر عند العامة. وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم”(8). العامة عند الصوفية هم علماء الشريعة.
وقال أيضا: “وهؤلاء (أي الصوفية) هم المدلون على الله تبارك وتعالى، والمستأنسون بالله تعالى، هم جلساء الله تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم، وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون أشياء هي عند العامة كفر بالله تعالى…”(9).
ويخبرنا الشعراني بقوله: “وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره. ويأخذ مفاتيحها تحت وركه، ويقول: أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى، وخاصته، ويرمونهم بالزندقة والكفر”(10).
وهذا الغزالي حجتهم يقول: “ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر”(11).
عجيب، يكتمون سرا ويتواصون على كتمانه خوفا من القتل، وليس إلا أنه باعترافهم هو كفر!!
بل لقد بين ابن عجيبة هذا الأمر بما لا يدع مجالا لتشكيك المشككين بعدما تمثل بأبيات من نظم الحلاج المصلوب، ثم علق عليها بقوله: “وبإظهار -يريد الحلاج- هذا ومثله قتل -رضي الله عنه-، فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صونا لذلك السر أن يظهر لغير أهله ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج”)(12).
وأكد هذا الأمر تأكيدا ابن خلدون بما يكفي للوصول إلى أن السر الذي تتواصى الصوفية بكتمه باعتباره عقيدة القوم، هو عين مقالة الحلاج حيث يقول: “قتل الحلاج… لأنه باح بالسر فوجبت عقوبته”(13).
وكان ابن الفارض -وهو منهم- يقول: “إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره إذ شرط هذا التوحيد هو الكتم”(14).
وبمثل قولهم هذا قال عبد القادر الجيلاني في كتابه فتوح الغيب، وهو لا يقل منزلة في قلوب الصوفية عن منزلة الجنيد(15).
فهل يظن الصوفية أن ما سطروه في كتبهم سيظل سرا مكتوما بينهم؟
أين المغرورون؟!!
أيعقل أن يكون تصوف هؤلاء بمثل نقولهم هذه تصوفا سنيا؟
وأين المخدوعون؟!!
بل كيف بك -أيها القارئ- إذا علمت أن الجنيد سيد القوم هو نفسه اتهم في عقيدته بشهادة الصوفية أنفسهم.
هذا الشعراني يقول في كتابه الطبقات الكبرى: “وشهدوا على الجنيد رضي الله عنه، حين كان يقرر في علم التوحيد، ثم إنه تستر بالفقه، واختفى مع علمه، وجلالته”(16).
وقال السراج صاحب كتاب اللمع “فكم من مرة طلب وأخذ، وشهدوا عليه بالكفر والزندقة”(17)، وذكر اليافعي صاحب كتاب المحاسن الغالية: “أنه لما سعي بالصوفية إلى بعض الخلفاء، أمر بضرب رقابهم، فأما الجنيد فتستر بالفقه…”(18).
وخلاصة القول في هذا المقال أن السر الذي تتواصى الصوفية بكتمه وعدم كشفه لغير أهله هو كفر في حقيقته. وأن مقام الجنيد العالي عند الصوفية هو باعتبار قدرته على عدم إذاعته وقوة براعته في إتقان أسلوب التلويح والغموض والتعمية والمغالطة. فتنبه.
ــــــــــــــ
1) روضة التعريف في الحب الشريف ص 431-432 .
2) اليواقت والجواهر 1/28، للشعراني.
3) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 6/271. لأبي العباس شمس الدين أحمد بن خلكان.
4) إيقاظ الهمم في شرح الحكم ص:39.
5) المصدر نفسه.
6) كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب ص:373، للسكيرج.
7) مكتوبات الإمام الرباني 3/110.
8) إحياء علوم الدين 4/449، لأبي حامد الغزالي.
9) قوت القلوب 77/2، لأبي طالب المكي.
10) الطبقات الكبرى، المقدمة. للشعراني.
11) مشكاة الأنوار، المقدمة.
12) إيقاض الهمم في شرح الحكم ص:156.
13) الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية؛ حاشية إيقاظ الهمم في شرح الحكم (346-347).
14) مصرع التصوف ص:153.
15) فتوح الغيب ص:330.
16) 1/14 و1/137
17) ص:500.
18) ص:422.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *