حضارة ثمود في القرآن الكريم (الحلقة الأولى) د: عمر خويا

  • مفهوم الحضارة وعناصرها:

مقدمة:

القرآن الكريم كتاب الله وبيانه، والدّستور المعبّر عن قضائه وقدره، وضع بين أيدي مخاطبيه منهجا لبناء حضارة متكاملة الأركان تسود وتقود، فلم يترك جانبا من جوانب حياة الكائن البشري إلاّ وعالجه. ثمّ إنّه عرّفهم على المنزلقات التي تعرّضهم للضّياع وتقصيهم عن كرسيّ القيادة في عمارة الأرض، وحذّرهم من الاقتراب منها تجنّبا للوقوع في مغبّتها وسوء عاقبتها، فأورد القصص لهم على سبيل العظة والاعتبار، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(يوسف:111).

  أوّلا: تعريف الحضارة والتّحضّر

الحضارة لغة هي الإقامة في الحضر[1]، وهو المكان الذي يكون فيه الحضور مستمرّا كالمدن والقرى، أمّا الحياة التي يطبعها التّنقّل والتّرحال فهي بخلاف هذا المعنى. أمّا مدلولها الاصطلاحي فأورده ابن خلدون في مقدّمته بقوله: «نمط من الحياة المستقرّة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابه فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصّناعة وإدارة شؤون الحياة والحكم وترتيب وسائل الرّاحة وأسباب الرّفاهية»[2]، ووصفها بقوله: «الحضارة، كما علمت، هي التّفنّن في التّرف واستجادة أحواله، والكلف بالصّنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه»[3]. وربطها محمد سعيد رمضان البوطي بعناصرها بقوله بأنّ الحضارة هي «ثمرة التّفاعل بين الإنسان والكون والحياة»[4]، ويلزمه الاستقرار كي يحدث ويثمر، ولمّا يثمر تختلف المجتمعات في حجم تلك الثّمرة وكيفية تحصيلها. أمّا البداوة والتّرحال فلا يحفظ الحدّ الدنى لتحصيل مكاسب مادّية ومعنوية هي في الأصل ثمرة الاستقرار.

والأصل في التّحضّر أنّه لا يحمل معنى قيميّا، بل هو وصف موضوعيّ لحالة من الاجتماع البشريّ في حالة الاستقرار التي تفضي إلى تحقيق منجزات مادّية ومعنوية. وإذا كانت غاية الإنسان في حياته هي أن يحقّق السعادة متمثّلة في الأمن والطّمأنينة ويسر الحياة، فإنّ التحضّر بهذا المعنى لا يحقّقها بذاته، وإنّما بدخول عوامل أخرى تضاف إليها، وهي الاستقامة على منهج الله في الحياة.

وقد يتأتّى من سطوة الحضارة الغربية اليوم على النّفوس: الاعتقاد بأنّ المقياس القيمي للتّحضّر يتحدّد بحسب ما تتوفّر عليه من منجزات مادّية تنبسط بها الحياة وتتيسّر سبلها؛ فيكون التّقدّم المادّي عنوانا للرّقيّ الحضاريّ مطلقا، وهذا حكم اختلّ به شرط كون التّحضّر وصفا موضوعيا فصار وهْما، يفنّده واقع التّاريخ البشريّ أنّ المقياس الحقيقي للتّحضّر يقاس بمقدار ما تحقّق من الخير والصّلاح للإنسانية جمعاء يؤهّلها لمزيد من التّحضّر والعمارة.

وهذا ما خلص إليه الفيلسوف الألماني ألبرت شفيتزر لمّا قال بأنّ الحضارة هي التقدّم الرّوحي والمادّي للأفراد والجماهير على السّواء[5]. إنّ الحضارة والتّحضّر الإنسانيّ قد يختلف في محتواه التّفصيليّ من مجتمع إلى آخر، لكنّه محكوم بسنن عامّة، سواء من حيث نشوئه وتطوّره ونمائه، أو من حيث توقّفه وارتكاسه وانحلاله.

    ثانيا: عناصر الحضارة الإنسانية

وهي وإن اختلف العلماء في تسميتها، فإنّها لا تتعدّى المكوّنات الأساسية للحياة الدّنيا؛ فمالك بن نبي حصرها في أربع: الأفكار، خاصّة الدّينية منها بكونها العامل الأساس في التّفعيل، والإنسان باعتباره فاعلا حضاريا، والتّراب ويمثّل البيئة الجغرافية التي يعيش فيها، والزّمن وهو الاستثمار الفاعل للوقت[6].

أمّا محمد سعيد رمضان فتحدّث عن ثلاثة عناصر فقط[7]: الحياة، وهي التّعبير الذي يجمع بين الإنسان والزّمن (العمر)، والكون، وهو المسرح الذي يمارس عليه الإنسان التّحضّر (جميع المسخّرات)، ولفظه أدقّ دلالة من “الطّبيعة” وأشمل من “التّراب”، والإنسان، وهو العنصر الفاعل والآخران منفعلان، وهو مركز الثّقل في التّحضّر بما أتاه الله سبحانه من قوى جسمية وعقلية وروحية ووجدانية.

    ثالثا: ثمرة التفاعل بين العناصر

الحضارة هي ثمرة التّفاعل بين هذه العناصر. وهي تحمل الخير للنّاس أو تكون وبالا عليهم بحسب درجة التزامها بمبادئ الحقّ والخير التي أمر بها الخالق سبحانه؛ فهو الذي استخلف الإنسان في الأرض كي يعمرها وفق منهج محدّد أرسل به الرّسل، وسخّر له ما به يصير ذلك ممكنا. وجوهر ذلك المنهج هو الإيمان، وهو دافع قويّ للتّحضّر على المستوى الفرديّ والجماعي؛ على المستوى الفرديّ ب«حصول كيفيّة من ذلك الاعتقاد القلبيّ وما يتبعه من العمل مستولية على القلب، فيستتبع الجوارح وتندرج في طاعتها جميع التّصرّفات حتى تنخرط الأفعال كلّها في طاعة ذلك التّصديق الإيماني»[8]؛ هنا يصبح الفرد مؤهّلا كي ينخرط بفاعلية في الجماعة. وعلى المستوى الجماعيّ يحصل: «إذا انصرفت[القلوب] إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل ، وأقبلت على الله واتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدّولة»[9]. وهذه ترجمة فعلية للفهم الجماعيّ الصّحيح للوجود، وتنزيل لمنهج الله تعالى في قراءة آياته.

وسَل عن الذين حملوا مشعل أرقى حضارة في التّاريخ كيف تبدّلت أحوالهم لمّا ساد اليقين المجتمعيّ بكلّ تلك الحقائق الكونيّة، لكن لمّا يتنكّب الإنسان عن المنهج ويحيد عنه، ينزل به البلاء بقدر ما أحدث من تشويه في مفهوم الاستخلاف والتّسخير. وينطق القرآن الكريم عن شواهد من التّاريخ الغابر عن حضارات قامت وبلغت أوج العظمة المادّية ثمّ أفل نجمها كلّيّا، وكان السّبب هو كفران النّعم. ولا تستثني سنن الله تعالى أحدا ممّن بلغ من الفساد والإفساد مبلغا يعلمه سبحانه، قال سبحانه: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾(الفتح:23).

وقصّة حضارة ثمود واحدة من تلك القصص التي قامت ثم بادت، واستحضرها القرآن الكريم في سياقات متعدّدة دلالة على أنّها جديرة بالدّراسة بقصد الاعتبار، خصوصا وأنّ الأمّة المسلمة تعيش واقعا يشدّنا الحنين فيه إلى رؤيتها متربّعة على عرش القيادة والشّهادة على الأمم الأخرى.

————————————————————

[1] – الفيروزآبادي. القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التّراث بمؤسّسة الرّسالة بإشراف محمد نعيم العرقسوسي، بيروت: مؤسّسة الرّسالة، ط8، 1426هـ/2005م، ص376.

[2] – ابن خلدون. المقدّمة، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1967م، ص259

[3] – نفس المرجع، ص162.

[4] – محمد سعيد رمضان البوطي. منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، دمشق: دار الفكر، ط2، 1998م، ص19.

[5] – يراجع كتاب فقه التّحضّر الإسلامي، عبد المجيد النّجار، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1999م، ص19- 25.

[6] –  المرجع السّابق ص26.

[7] – البوطي. منهج الحضارة الإسلامية في القرآن، ص20.

[8] – ابن خلدون. المقدّمة، ص426.

[9] – المرجع السّابق، ص142

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *