إن موضوع حديثي معكم -أيها القراء الكرام- في هذه الحلقات هو تميز كل من العلم والعمل في الإسلام بخصائص لا يشاركهما فيها غيره من العلوم السماوية والأرضية؛ ذلك لأن كلمة العلم ذات مدلول واسع جدا وذات شعب كثيرة جدا، بالإضافة إلى أنها مرغوب فيها من طرف المؤمنين والكافرين على حد سواء، وأخاذة ببريقها الأمم القديمة والحديثة في آن واحد، فالجبابرة في التاريخ القديم والحديث إنما تكبروا وتجبروا لغرورهم بالعلم، وأنبياء الله ورسله إنما بعثوا إلى أممهم بالعلم، فالعلم إذن قوة وسلاح ذو حدين؛ يكون سبب غواية لأناس ويكون سبب هداية لآخرين، ومن هنا كان لزاما على طالب العلم أن يميز بين العلم الذي يكون سبب هداية والذي يكون سبب غواية، إذ بهذا التمييز يمكن للطالب أن يصرف كل اهتمامه لطلب العلم النافع قبل أن تضيع جهوده في طلب توافه العلوم والفنون وهو لا يدري أن في العلوم والفنون توافه، وأن التفاهة في العلوم ترجع مرة إلى كونها غير مشروعة، ومرة أخرى ترجع إلى تأخير ما هو الأهم منها على ما هو المهم.
وقبل التخلص إلى ذكر ما هو المقصود الأول من هذه المقالات؛ وهو مميزات وخصائص العلم والعمل في الإسلام أمهد له بما يلي:
1- مقدمة مختصرة حول تعريف العلم وتقسيماته عند أهل الديانات وعند أهل الإسلام والفلاسفة، ثم اختلاف المسلمين في المراد بالعلم الذي هو فرض على كل مسلم، ثم التحذير من الاشتغال بعلوم غير مشروعة، ومن الانصراف الكلي إلى تقديم ما هو وسيلة من العلوم على ما هو غاية.
2- ذكر أمثلة من تنكر أهل العلوم في الإسلام للسنة وعلومها.
3- سرد شواهد على اعتناء أهل الحديث بعلوم السنة والدفاع عنها.
4- الدعوة إلى التفرقة بين العلماء والكتاب والقراء.
5- الإشارة إلى بعض مميزات العلم والعمل في الإسلام.
وفيما يلي ذكر هذه الأشياء التمهيدية، لأن في ذكرها عبرة لطالب العلم حتى لا تذهب جهوده سدى، ويندم حيث لا ينفع الندم، خصوصا في هذا العصر الذي أصبحت فيه العلوم والفنون معبودات تعبد.
مقدمة في تعريف العلم وتقسيماته وما ينبغي الاشتغال به
مما لا ينبغي الاشتغال به منه:
فعن تعريف العلم وتقسيماته وما ينفع منه وما لا ينفع قال ابن عبد البر: “حد العلم عند العلماء المتكلمين في هذا المعنى ما استيقنتَه وتبينتَه، وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه، والعلوم تنقسم قسمين: ضروري ومكتسب؛ فحد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، والنظري ما كان طريقه الاستدلال والنظر، ومنه الخفي والجلي؛ فما قرب من العلوم الضرورية كان أجلى وما بعد منها كان أخفى.
والمعلومات على ضربين: شاهد وغائب؛ فالشاهد ما علم ضرورة والغائب ما علم بدلالة من الشاهد.
والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط؛ فالعلم الأعلى عندهم هو علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أوَّله الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصا، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي تكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة، والعلم الأسفل هو أحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية وأشبه ذلك، وهذا التقسيم في العلوم هو كذلك عند أهل الفلسفة إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية و التي ترتفع عن الطبيعة والفلك مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه والتشبيه ونفيه، وأمور لا يدرك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس، قد أغنت عن الكلام فيها كتب الله الناطقة بالحق المنزلة بالصدق…
يتبع