قراءة في الخطاب الحداثي وإيقاف عمر لحد السرقة في عام الرمادة

حين اعتمد الخطاب الحداثي على بعض الاجتهادات العُمَرية لم يكن متصوراً لحقيقة تلك الاجتهادات، ولا مدركاً لفحواها، وقد اجتهد عدد من العلماء والمفكرين المعاصرين في بيان حقيقتها، وتوضيح ملابساتها، وشرح حيثياتها (الواقعية والزمانية والشرعية)، واستعرضوا جميع الأمثلة التي اعتمد عليها الخطاب الحداثي، وبيَّنوا كيف أنها لا تتوافق مع توصيفهم لها، وأنه ليس فيها شيء من تقديم المصلحة على النص الشرعي، وليس فيها تجاوز لسلطته ولا تخلُّص من إلزاميته، وأفردوا في ذلك مؤلَّفات وبحوثاً خاصة، وأطالوا في بيانها كثيراً حتى بُحَّت أصواتهم وكلَّت أقلامهم، وهم يشرحون ويبيِّنون ويطالبون بالرجوع إلى التاريخ والمصادر الصحيحة، وبالالتزام بالقرائن والدلائل المؤثرة[1]، والغريب حقاً أن الخطاب الحداثي ما زال مستمراً يكرر وصفه كما هو بالطريقة نفسها، وكأنه لم يسمع ولم يبصر.
ولن نطيل هنا بتكرار كل الأمثلة التي وظفها الخطاب الحداثي؛ وإنما سنقتصر على أكثرها حضوراً وتوظيفاً لديهم؛ حتى يتبن مقدار الهوة بين الفهم الحداثي للاجتهادات العُمَرية وبين ما يثبته التاريخ وتؤكده القرائن والملابسات.
إيقاف حد السرقة في عام الرمادة
وصورته عند الخطاب الحداثي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خالف النص القطعي في قطع يد السارق، وهو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، فلم ينقذ هذا الحكم في عام الرمادة لأجل المصلحة التي أوجبها التغير الطارئ على السياق الاجتماعي والتاريخي، وهو ما يقتضي عدم القطع، فها هو عمر يلغي الحكم القطعي لأجل المصلحة.
ونحن إذا رجعنا إلى التاريخ لنتحقق من حقيقة ما فعله عمر، ولنتبين مدى صحة تصور الخطاب الحداثي للواقعة، فسنجد الأمر مختلفاً عن الصورة التي قدموها للحادثة.
وقبل أن نبيِّن ذلك لا بد أن نشير إلى أن عدداً من علماء الحديث قد ضعَّفوا الخبر الذي جاء فيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أوقف حدَّ السرقة في عام الرمادة [2].
ولكن على فرض صحة القصة فإنه ليس فيها شيء مما تصوَّره الخطاب الحداثي؛ لأنه من المعلوم لدى كل المسلمين أن الحدود في الشريعة لا تقام على العبد بمجرد الوقوع في المخالفة الشرعية المترتب عليها الحد؛ وإنما لا بد من توفُّر شروط كثيرة وانتفاء موانع كثيرة كذلك حتى يمكن تطبيق الحد، وقد شددت السُّنة النبوية على ضرورة التأكد من تكامل موجبات الحدود، وحثت على درء الحد عن المسلمين؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله»[3].
ومن الموانع التي تمنع من تنفيذ أي حد في الشريعة: حصول الشبهة، ولهذا فقد استفاض الخبر عن الصحابة: كأبي هريرة وابن مسعود وعلي وعائشة -رضي الله عنهم- بدرء الحدود عند وجود الشبهة؛ لأنهم رأوا أن من محققات الاحتياط في تطبيق الحدود حصول الشبهة أثناء فعل المخالفة الشرعية، وهذا الحكم من الأحكام المجمَع عليها بين علماء المسلمين، ولم يخالف فيها إلا الظاهرية فقط، وقد حكى الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما[4]، وهذا المعنى يدل على أن الحكم في آية السرقة مقيد بقيود أخرى بُيِّنت في السُّنة النبوية.
فكان من رأي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن من الشُّبَه التي يُدرَأ بها حد السرقة: أن يسرق الرجل في حال المجاعة والاضطرار إلى الأكل، وهذا ما يدل عليه نص كلام عمـر؛ فإنـه حين جيء إليـه بالسارق في عـام الرمادة قال: (لا قطع في عام سنة)، فقوله هذا يدل على أن القطع حكم ثابت، ولكنه لا يطبَّق في وقت المجاعة لتعلُّق الشبهة بذلك.
فعمر -رضي الله عنه- إذن لم يُقِم حد السرقة لأنه لم يثبت أصلاً ولم تتحقق شروطه، لا لأنه يرى إلغاءه وتوقفه لاختلاف السياق الاجتماعي.
ومما يدل على ذلك: أنه امتنع عن إقامة الحد في مشاهد أخرى غير ما حصل في عام الرمادة، ومن ذلك قصته مع غِلمَان حاطب ابن أبي بلتعة حين سرقوا بُلْغَة لرجل من مزينة، فأمر عمر -رضي الله عنه- أول الأمر بقطع أيديهم، ثم تأمل في حالهم، وأمر برفع الحكم عنهم، وعلل ذلك فقال: (لولا أنكم تجيعونهم حتى إن أحدهم أتى ما حرَّم الله لقطعت أيديهم، ولكن -والله- لئن تركتَهم لأغرِّمنَّك فيهم غرامة توجعك)[5]، وهذه الحادثة لم يَرِد ما يدل على أنها كانت في عام الرمادة.
وهذه الوقائع تدل على أن عمر لم يخالف النص الوارد في حد السرقة؛ وإنما عمل بتقييداته التي جاءت في النصوص الأخرى. وعلى فرض أنه خالفه فهو لم يخالفه لأجل تقديم المصلحة عليه؛ وإنما بناءً على نص شرعي آخر.
فمنطلقات عمر -رضي الله عنه- إذن في كل الأحوال راجعة إلى النص الشرعي ولا ورود للمصلحة في هذه الحادثة كما هو ظاهر. (التوظيف الحداثي للاجتهادات العُمَرية.. قراءة نقدية، د. سلطان العميري).

ــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر في بيان ذلك: (نظرات في فقه عمر الفاروق) محمد المدني، و (منهج عمر بن الخطاب في التشريع) محمد بلتاجي، و (السياسة الشرعية في نصوص الشريعة ومقاصدها) يوسف القرضاوي، ص (169 – 222)، و (ضوابط المصلحة) محمد سعيد البوطي، ص (152 – 175).
[2] انظر: إرواء الغليل، الألباني: (8/80).
[3] أخرجه: الحاكم في المستدرك: (4/426) (8163) وصححه.
[4] انظر: المغني، ابن قدامة: (9/55).
[5] أخرجه: البيهقي في السنن: (17749).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *