قَوَاعِدُ النظرِ في شرحِ الأحاديثِ النبوية لا تختلفُ عن قواعد تفسير القرآن الكريم، مع مراعاة خصائص كُلٍّ؛ ولكن أصول التفَهُّمِ مشتركة في غالبها؛ ولذا لزمَ الناظرَ وجوبُ التدبر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يلزمه ذلك في كلام الله؛ بجامعِ الوحي في كُلٍّ ولِحَتْمِيَّةِ الترابطِ بين المُبَيَّنِ و المُبَيِّنِ في عبادةِ البيان ..
وَقَدْ شاعَ عند العلماء إفرادُ التصنيف في شرح حَديثٍ واحدٍ لغزارةِ معانيه ولبهاء مَغانيه واستفراغ الوسع من مُعَانيه.. حتى يظهر جلاء البلاغ النبوي وسَعَةِ حِكَمِهِ وأحكامه؛ كشروحهم على “حديث أم زرع” و”حديث الولي” و”حديث النُّغير” و”حديث يا عبادي”..
بل تفرع عند العلماء عن هذا نوع من علوم الحديث لم يذكره ابن الصلاح ولا منِ انطوى في سُلالته؛ وهو “مُلَقَّباتُ الحديث”، ثم تطور حتى صنف المعاصرون “ما أفرد بالتصنيف من الحديث الشريف”، بل تميز جمع من العلماء بتعاطيه كابن رجب الحنبلي والسخاوي الشافعي.
ومن شريف مقاصدهم في ذلك: إماطةُ الأذى عن سوء الفهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سوء التنزيل تضييقاً حيث التوسيع أو توسيعاً حيث التضييق؛ فيعمدون إلى إزالةِ عقيم النظرِ ويُفَندون شبهاتِ سقيم الفهم، ويجددون نَهَلَ العطاءِ من نَهَرِ الكوثر النبوي الذي فيه من جلال القرآن ما يجعله أيضاً ذا طلاوةٍ وحلاوةٍ، لا يخلَقُ عن كثرة السَّرْدِ “فحديثه سَماءُ البيان” و”تَردَاده يزدادُ فيهِ تَجَمُّلاً”؛ وصَدَقَ الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
وكثيرا ما تجد في ما اشتهر على الألسنة من الحديث بمختلف مراتبه؛ مسرحاً خصباً للتفقه الخطإ ومرتعاً وخيماً لاستخدامٍ معوج، يلزم العلماء بضرورةِ التقييمِ تبييناً للناس وحمايةً للجناب النبوي من العبث والشطط ..
ومن هذا البابِ حديثٌ صحيح كثيرا ما يتحجج به القاعدون أو المثبطون أو الطيبون -فهم ثلاثة أصناف-؛ يتفقون في التستر تارةً والتترس تاراتٍ -ولنعم الوجاء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بحسن فهم-؛ “فرب حاملِ فقهٍ ليسَ بفقيهٍ” ..
وما أكثرهم في هذا الحديث العظيم الذي رُوِّيناهُ من طرق في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
ومن سوء التعاطي؛ صار هذا الحديث كالهُزْأَةِ عند بعض العوام؛ إذ يجعلونه عنوانا مسوغاً لكل تقصير ورافعا للملام عند كل مَعَرَّةٍ..
لقد أفادنا هذا الحديث الشريف ما اصطلح العلماء عليه بدرجات النهي عن المنكر، وأن الأمرَ تَحْكُمُه المناطاتُ والمآلاتُ والولاياتُ.
وهذه الدرجات هي: درجة التغيير باليدِ، ثم درجة التغيير باللسان، ثم تأتي درجة الإنكار بالقلب.
وهذه الدرجة وإن كانت متأخرة من وجهٍ سيأتي بيانه؛ فيمكن -إمعاناً في البيان النبوي- اعتبارها أيضاً هي الأعلى والأولى:
-1- الأعلى من جهة أنها أفادت: أن العلمَ -والعلمُ سابقٌ عن العملِ ولا بدَّ-؛ بأن الشيء منكر شرط لإنكاره؛ قطعاً لتطاول الجاهلين أن ينكروا المعروف أو أن ينكروا ما في حَيِّزِ السَّعَةِ مما هو مباحٌ فليس معروفا وليس منكرا؛ ولكنْ رُفِعَ الحرجُ عَلَيهِ لا حواليهِ ؛ -إذ قد يترك ما لا بأس فيه خشية ما به بأس، على ما أفاض الشاطبي فيه من سَيْبِ الموافقات فانظره ثَمَّتَ..
-2- والأعلى من جهة أنه صادر عن اعتقاد باطني ويقين قلبي بأن هذا منكر يغضب الله ويسخطه، وأن ما أغضب الله وأسخطه هو منأى المؤمن ورَهَبُهُ ورَهَبُوتُهُ، وأن ملجأ المؤمن رضا الله ورضوانه ومرضاته: “رضي الله عنهم ورضوا عنه” “في عيشة راضية” “راضيةً مرضيةً” في جنته وبين عباده الصالحين.
وقال تعالى عن أعدائه: “اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ”…
-3- والأعلى من جِهة أن فيه مجاهَدَةَ النية وعبادة الأفعال القلبية؛ بحيث إنه يتوطن ليكون منطلقا للتأثير في بقية الجسد -لا أن يتوقف عنده-؛ لقول المصطفى: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.
فَالإحالةُ على “القلب” في آخرِ الدرجات مع عُلُوِّ المَحَلِّ ودُنُوِّ المَرْتَبَةِ؛ تُؤَكِّدُ تَحفيزَ الشارعِ للانبعاث من هذه المرتبة لعدم مناسبتها لهذا المحل الشريف الذي هو موطن الفقه: “لهم قلوبٌ لا يفقهون بها”.
ولشرف القلب وعظم أمره؛ لم يكتف ربُّنا تعالى في ذكر تنزيله القرآن على ذكر عبده المنزل عليه؛ بل ذكر منوِّها بأخص خصائصه وبشرف محل التنزيل وهو “قلبه الشريف”؛ فقال: “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ”.
فَوِجْهَةُ الوحي القلبُ ومنطلق النذارة والبشارة للعالمين هي القلبُ أيضاً؛ كما قال جل ذكره: “فإنه نَزَّله على قلبك بالحق”.
وشرف القلب على سائر الأعضاء مشهورٌ معروفٌ، والمقصود أن يستدل بشرفه على استحالة أن يناطَ به دَنِيُّ المنازلِ إلا على وَجْهِ الاستيداع الموجب للاستعداد لا على وجه الخُنُوعِ المُفْضِي إلى الموت..
إذا فهذه الدرجة ليست منتهىً للإعذار عند العجز فقط؛ وتلك إحدى دلالات الحديث كما نص علماؤنا الكبار الكرام؛ ولكنها أيضاً باعث تأهيلي ووازع إعدادي لِتَرْقَى النيةُ إلى العملِ ويَكْبُرَ العزمُ نحو الرَّشَدِ وتتعالى النفس عن درجة التحديث بالغزو -المأذون بها عَجْزاً- إلى درجة الغزو عينه بمختلف مجالاته وأنواعه؛ الذي تتحقق به البراءة من النفاق: “من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق” (رواه مسلم).
وقد بينا في غير هذا السياق معنى “تحديث النفس بالمعالي” وأنه بإخلاص القلوب وتوطينها على الأهداف السامية؛ وبمداومة الحديث عنها في “جهاد الكلمة”؛ فَسْراً وتبليغاً حتى لا يغفلَ الناسُ فيستوليَ الرانُ على القلوبِ فيتبلدَ الإحساسُ ويضعفَ الولاءُ لله تعالى؛ فـ”لا يتحقق التحديث إلا بدوام صحة الحديث” فاحفظه رعاك الله ولا تكن من الذين يحملونه معنى الخنوع المميت للقلب، (ولولا سَنَنُ المقالات لذكرنا الإحالات).
وهذا الباعثُ لم تُقِرَّ الشريعةُ القرارَ عنده والاستقرار في مقعد القاعدين عند تأويلٍ مُنْقَعِرٍ كأعجاز نخل خاوية، تأنسُ لذواتِ الخشبِ المُسَنَّدةِ؛ فلا تُسْمَعُ صيحةٌ ولو صيحةُ حُمُرٍ أو حُداءُ إِبِلٍ لِرَحيل يوم ظَعَنِكُمْ ويوم إقامتكم، فضلاً عن نداء “حي على الفلاح”؛ إلا قالوا: “فمن لم يستطع فبقلبه”.
متغافلين -رحمهم الله- عن دلالاتٍ واضحات:
الدلالة الأولى: تحديد الاستطاعة واختلافها بحسب المكلفين.
الدلالة الثانية: نفي الاستطاعة وتجزئة ذلك النفي درجاتٍ.
الدلالة الثالثة: البدلية القبلية قبل بلوغ الحالة القَلْبية؛ وأن الدرجة لا تغني عن صاحبتها التي قبلها حتى يوقنَ بالقطع -المبرئ للذمة-؛ بعدم استطاعتها بعد محاولتها والسعي في تحصيلها أو إيجادها عَيْناً أو كفايةً أو تطوعاً، وقد تكلم الفقهاء -وهو من بدهيات أبا جاد علم الأصول- عن أوصاف الواجب البدلي وما يتعلق به من أحكام المكلفين في أقسام الحكم التكليفي وأنواع المسمى “واجباً”…