المراحل التاريخية لتطور العَلمانية الغربي بوجمعة حدوش

ظهرت العلمانية الغربية في القرن السابع عشر، وأخذت عدة معان؛ “فكانت تعني “فصل الدين عن الدولة” في القرنين السابع عشر والثامن عشر.”[1] هذا القرن الذي تميز “بظهور روح الشك العام في كل شيء تقريبا، ومع ذلك فقد ظهرت فلسفات إيجابية متنوعة يدور محورها حول كلمتين هما في الواقع صنمان استحدثهما الهاربون من نير الكنيسة ليحل محل إلههما المخيف وهما العقل والطبيعة.
أما العقل فلم يعد مقيدا بأغلال الثنائية الديكارتية بل بدأ يبحث عن ذاته ويسلك طريقه لكي يتصرف كما لو كان “إلها” بالفعل، وتعالت أصوات الباحثين والفلاسفة منادية بأن العقل هو الحكم الوحيد والعقل هو كل شيء وما عداه فهو وهم وخرافة…
أما الطبيعة فإله “جذاب” رحب الصدر ليس له كنيس ولا التزامات ولا يستدعي طقوسا ولا صلوات، وكل ما يطالب به الإنسان أن يكون إنسانا طبيعيا يلبي مطالبه الطبيعية في وضوح وصراحة.”[2]
وهكذا “قامت العلمانية اللادينية على الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى وإنكار الأديان.. وكانت العلمانية عند قيامها في مرحلتها الأولى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، تنظر إلى الدين على أنه ينبغي أن يكون أمرا شخصيا لا شأن للدولة به إلا ما يتعلق بجباية الضرائب للكنيسة، ولعل هذا كان خداعا لأهل الدين، ثم امتدت المواجهة للدين على النحو الذي تطورت إليه بعد ذلك، وكان الخلاف محتدما بين رجال الدين ورجال العلمانية على السلطة، مما جعلهم ينادون بفصل الدين عن الدولة ليستقل كل فريق بسلطته”[3].
“وهكذا استمر الحال في القرن الثامن عشر، لكن بعد أن قويت شوكة هذا العقل وفاق ما عداه من معايير تنظيم الحياة، اقتحم القرن التاسع عشر مبعدا ذلك الدين عن الدولة ومقصيا رجاله عن مجتمعه، باعثا إياهم للدول الأخرى في مهمات رسمية أخذت أسماء عدة منها: التبشير والاستشراق، لذا فقد عُرف القرن التاسع عشر في أوروبا بعصر الإلحاد”[4].
“وكان أول من دعا إلى فصل سلطة علماء الدين عن السياسة والحكم الفيلسوف ديكارت، ثم تبعه بيكون، ثم سبينوزا، ثم جون لوك، وهم جميعهم ملحدون مارقون، وفي 1778 مهّد جان جاك روسو للثورة ضد الكنيسة والإقطاع، فألّف كتاب: (العقد الإجتماعي) الذي اعتبره الفرنسيون إنجيل ثورتهم التي قامت عام 1789.
أما اليهودي سبينوزا فقد كان رائد العلمانية، واعتبرها منهجا للحياة ولسلوك الناس، وأصدر بآرائه العلمانية كتاب: (اللاهوت والسياسة) ثم جاء فولتير صاحب كتاب: (القانون الطبيعي) الذي أنكر وجود الله وأنه خالق الكون، ونسب الخلق والإبداع للطبيعة ذات القدرات الخارقة. ثم دعا وليم جودين عام 1793م من خلال مقالاته وكتاب: (العدالة السياسية) إلى العلمانية وإلى الابتعاد عن الدين.
وابتدأت الثورة الفرنسية بتظاهرة غوغائية احتشدت أمام الباستيل، ثم هدّمته وطالبت بالحرية والمساواة والإخاء -وهي نفس الشعارات التي ترفعها الماسونية السوداء-.
وفي عام 1859 أصدر تشارلس داروين كتابه: (أصل الأنواع) الذي أنكر فيه الخلق الإلهي، وقال بأن كافة الكائنات الحية البدائية قد ظهرت قبل مليارات السنين بشكل تلقائي، ثم راحت تتطور حسب ظروف البيئة حتى تمخضت عن كافة المخلوقات التي تدب الآن على سطح الأرض بما فيها الإنسان.
وأيّد هذه النظرية الملحدون: دوركايم، وفرويد، وكارل ماركس مؤسس الفكر الشيوعي الذي قال: إن الدين أفيون الشعوب، كما أيدتها الماسونية والشيوعية ومؤيدو الفلسفة الوجودية مثل جون بول سارتر وكولن ويلسون وغيرهم”[5].
“وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهر مكابران آخران بالغا في عدائهما لله وللأديان السماوية، هما: جورج هوليوك، وتشارلس ساوت، اللذان أصدرا مجلة (عرّاف العقل) وكرّسا كتابتهما للتجديف والطعن في الدين، ومما قالاه:
“لم يكن العهد القديم إلاّ تسجيلا فاضحا للشذوذ والشهوات الجنسية ولسفك الدماء، ودعوة ماجنة للفجور والإلحاد فاقت كافة روايات الدعارة ذات الصيت الواسع”!.. لقد خلطا بين التورات الإلهية وبين التلمود الموضوع من قبل حاخامات مارقين وفلاسفة متنطعين ملحدين بعد مئات السنين من انتقال موسى عليه السلام إلى الرفيق الأعلى!.. لقد صوّر هذان المفكران الأنبياء والقديسين ابتداء بموسى عليه السلام وانتهاء ببطرس نصابين وسفاكي دماء، كما أنكرا وجود الله وقالا: إنهما يشعران بالغثيان إذا ما لامسهما مسيحي!…
كما تحاشى هذان المفكران كلمة الكفر والمادية والإلحاد، وأطلقا على فلسفتهما اسم (العلمانية) ليتّقيا بذلك محاربة الناس وعداءهم وتصدِّيهم وبذلك نجحا في تضليل البشر وفي خداعهم وأوقعاهم في حبائل مكرهما وفكرهما، بل وكفرهما”[6].
هكذا أخذت العلمانية في التطور بعد أن اعتنقها كبار المفكرين والفلاسفة، وحاولوا إقناع الناس أنها هي الخلاص من طغيان الكنيسة، ومن كل الجهل والتخلف الذي كانوا يعيشونه.
“وقد ذكر الدكتور العرماني أن العلمانية قد مرّت في تطورها بأدوار هي كما يلي:
ــ الدور الأول: وقد كان دور الصراع الدموي مع الكنيسة، وسمي هذا الدور بعصر التنوير أو بداية عصر النهضة الأوربية، ويعود سببه إلى تأثر الأوربيين بالمسلمين إثر اختلاطهم بهم عن طريق طلب العلم في الجامعات الإسلامية، وقد ذاق علماء الغرب في هذا الدور ألوانا من العذاب على أيدي رجال الكنيسة إثر ظهور الاكتشافات العلمية هناك ووقوف رجال الكنيسة ضد تلك الاكتشافات وجها لوجه.
ــ الدور الثاني: ظهور العلمانية الهادئة وتغلب رجالها على المخالفين من رجال الكنيسة، وفيه تم عزل الدين عن الدولة، وانحصرت مفاهيم الكنيسة في الطقوس الدينية فقط بعيدة عن الحياة الاجتماعية كلها.
ــ الدور الثالث: وقد اكتملت قوة العلمانية ورجالها، وحل الإلحاد المادي محل الدين تماما”[7].
إذن قامت العلمانية في البلاد الغربية نتيجة لتحريف الكنيسة للدين المسيحي، وإحلالها مكانه دينا عنصريا لا يعترف بالضعفاء، بل يستغلهم ويأخذ منهم ممتلكاتهم وأرزاقهم، فكان من حقهم أن يثوروا على هذا الدين، بل ويبعدوه عن كل مجالات حياتهم.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم، ص: 46
[2] العلمانية، سفر بن عبد الرحمان الحوالي، ص: 159ــ160
[3] المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمع وموقف المسلم منها، د.غالب بن علي عوجي، ج: 2، ص:648
[4] التيار العلماني وموقفه من تفسير القرآن الكريم، ص: 47
[5] الإسلام يتصدى للغرب الملحد، د.محمد نبيل الشنواتي، ص: 169 ــ170 ط: الأولى
[6] المصدر نفسه، ص: 44 ــ 45
[7] المذاهب الفكرية المعاصرة، ج: الثاني، ص: 686.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *