من النضال الاشتراكي التليد.. إلى الجشع الرأسمالي الطارف الحسن العسال

منذ انهيار الاشتراكية في معقلها، الذي لم يكن معقلها الذي حدده ماركس، وتحولها نحو الرأسمالية في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، تلبس اليساريون العرب، ومن ضمنهم المغاربة، بشكل غريب بهذا التحول، وفي غفلة من الزمن وأهله، أصبحوا دعاة للرأسمالية والديمقراطية والتعددية، بعدما كانوا يملأون الدنيا ضجيجا عن الحزب الواحد وصراع الطبقات. غير أن هذا التحول العملي وقع دون إعلان صريح منهم بالتخلي الواضح عن الإرث الاشتراكي، بدليل استمرار أحزاب في حمل أسماء اشتراكية، فضلا عن الاعتزاز بهذا الإرث، دون إحساس بالتناقض الكامن بين الاشتراكية والرأسمالية، اللتان لم تكونا إلا عدوتين عبر التاريخ، بل لم تنشأ الاشتراكية نظريا إلا على أنقاض عدوتها اللدود.
فالمفارقة العجيبة الغريبة أنهم تبنوا الرأسمالية عمليا، ولم يتخلوا عن الاشتراكية ولم يلعنوها، بل لازالوا يعيشونها وجدانيا، مما يسقطهم في الانفصام الفكري والتناقض المنطقي المتمثل في الجمع بين الأضداد.
وحتى الفئة من اليسار التي لم تتلبس بتنازلات الحكم، تدعو هي الأخرى إلى وحدة اليسار، مما يعني أن تغيير الجلد الاشتراكي بالرأسمالي، لا يفسد للود قضية.
لا يجد القوم غضاضة في الانتقال من حتمية العنف الثوري للإطاحة بالدولة البورجوازية، إلى إمكانية سلوك الطريق السلمي عبر البرلمان لإحداث التغيير المنشود، دون التبرأ من الإرث الاشتراكي وإعلان التوبة عنه.
ولا يجدون غضاضة أو تناقضا بين سلوكهم العملي إبان حكومة التناوب، وبين قول نبيهم ماركس: “إن التاريخ يصنعه صراع الطبقات، وإن صراع البروليتاريا مع أرباب العمل الرأسماليين سيقود في النهاية إلى إقامة مجتمع اشتراكي يقرر فيه المنتجون مصيرهم المشترك، والمتحرر من أي قيود اقتصادية أو اجتماعية، وعند ذاك يصل الصراع الطبقي إلى نهايته”.
فسلوكهم العملي إبان حكومة التناوب لا ينم أنهم كانوا يمثلون البروليتاريا! خصوصا وأن إبان هذه الحكومة استحدثت وزارة المالية والخوصصة، التي لم يطبق وزيرها الاشتراكي مبدأ: الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج والإدارة التعاونية للاقتصاد، كما ينص على ذلك النظام الاقتصادي الاشتراكي؟
أليس هذا تحولا بمائة وثمانين درجة، من التأميم إلى التفويت؟ ومن الملكية الاشتراكية إلى الخصخصة. وجريدة المحرر شاهدة على ذلك، وكذلك شافيز وكاسترو اللذان بقيا وفيين لاشتراكيتهما.
لأنه إذا “كان التأميم وسيلة ضرورية لبناء النظام الاقتصادي الاشتراكي، وذا طبيعة سياسية واجتماعية وأخلاقية، ويساعد على إزالة الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، ويساوي بين المواطنين في طبقة واحدة، ينتفي فيها استغلال الإنسان للإنسان، وتتوزع بذلك العوائد المادية بشكل متناسب مع الحاجات، أو مع الجهود المبذولة” كما يزعم الاشتراكيون، إذا كان الأمر كذلك، فلم لم يحاول الاتحاد الاشتراكي الحفاظ على ما كان في أيدي الدولة، بله تطبيق التأميم وتعميمه، ونحا نحو التفويت والخصخصة؟
هل السبب يرجع إلى أن القوم تراجعوا عما كانوا يؤمنون به من مقولات اشتراكية، عفا عنها الزمن؟ ورأوا أن تلك المقولات لم تكن إلا تخديرا لعقول الطبقة المسحوقة، باسم انتشالها من بؤسها.
أم أن الأمر داخل في عجلة التطور الذي هو شيء محمود؟
أم أن الجشع الرأسمالي أشد إغراء من كل مبادئ العدالة الاجتماعية؟
فإن كان الأمر الأول، فلم التشبث بالاشتراكية شكلا، ونبذها مضمونا؟
وإن كان الأمر الثاني، فالذي وقع ليس تطورا، بل هو تغير وانقلاب فكريان، لأن الاشتراكية لم تتطور أبدا إلى رأسمالية، كما أن الحمار لن يصبح قردا أبدا.
إذن، فالسؤال المطروح حول حال اليسار المتغير اليوم، ليس التغير ذاته، وإنما في الحنين إلى ما قبله، والافتخار بهذا الماضي الاشتراكي التليد[1]،مع التمتع بالحاضر الرأسمالي الطارف[2].أو بعبارة أخرى العجب من العيش في التناقض والانفصام.
وبما أنه لا حديث هذه الأيام إلا عن الفساد وعن كيفية محاربته والمزايدة في ذلك، فما هو الحل للقضاء عليه بالنسبة لليسار، هل هو حل اشتراكي يتلاءم مع مقولة “تحرير الطبقة المظلومة، من استغلال أرباب العمل الرأسماليين”، أم هو حل رأسمالي يخضع لتجاذبات السوق؟
وبمعنى آخر: هل هو حل من منظور “تليدي”، أم من منظور “طارفي”؟
من منظور تراثي اشتراكي، أم من منظور حداثي رأسمالي؟
ولربما هناك طريق ثالث صرح به الحبيب المالكي لوكالة المغرب العربي للأنباء؛ حين ترشحه لمنصب الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، والمتمثل في “الاشتراكية الديمقراطية”، دون الإفصاح عن مدلوله، والظاهر أنه بعيد عن مقصود “لينين” منه.
ويبقى الغموض سيد الموقف بين سلوك اليسار ومعتقده، ويظهر هذا جليا في قول نبيهم: “الدين أفيون الشعوب”، فإن “أحسنا الظن” بماركس، واعتبرنا قولته المقصود منها المسيحية التي اضطهدت العلماء وحرقتهم، بل جعلت “غاليليو غاليلي” يعتذر عن نظرياته العلمية، التي ثبت فيما بعد صدقها؛ إن أحسنا الظن فالمقولة صحيحة؛ أما أن نسحبها على الإسلام، وهذا ما يفعله اليسار، فهو الباطل بعينه، مادام هذا الدين المهيمن، لم يقدم صكوكا للغفران، ولا أقام محاكم تفتيش، لكن منطق بني علمان من اليمين إلى اليسار، هو أن “النملة كالفيل لها خرطوم طويل”، أي بما أن الكنيسة مكان عبادة، والمسجد مكان عبادة، فالكنيسة كالمسجد، وينطبق عليه ما سرى عليها!
ولأنهم وقعوا في التخبط الفكري، والغموض النظري، فقد توزعوا أوزاعا وفرادى في الأحزاب والجمعيات والإعلام، وأنشأ بعضهم صحفا سماها مستقلة، وما استقلالها إلا عن الحق والصدق والحقيقة. نعم توزعوا لا للتبشير بالاشتراكية، ولكن لإشباع جشعهم ونهمهم الرأسمالي، فما عادت تهمهم البروليتاريا، ولا الطبقات المسحوقة الكادحة المظلومة، بل أصبح همهم “كونية” طارفة، ما كانت من مقولات ماضيهم التليد، يتسولون بها على أبواب الأسياد الغربيين، عسى أن يجود بأوروهات ودولارات، تعوض سنوات القحط الاشتراكي.
وهناك من اليسار، هروبا من الرأسمالية المتوحشة، وحنينا إلى الإرث الاشتراكي، من لجأ نظريا، إلى ما يسمى الديمقراطية الاجتماعية، التي تجمع بين الليبرالية السياسية واليسار الاجتماعي، والتي هي الأخرى ليست إبداعا محليا، لأن القوم مغرمون بالنهل من جميع الملل إلا ملة الإسلام، ومولعون بالأخذ من جميع الأقوام، إلا قوم محمد صلى الله عليه وسلم. فالانفتاح عندهم يشمل جميع الاتجاهات إلا اتجاه القبلة.
ومن مبادئ الديمقراطية الاجتماعية الحريات والمساواة والتضامن الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام، وعلى الرغم من أن دعاة هذه الديمقراطية يدعون انفصالهم عن توحش الليبرالية في الاقتصاد نظريا، إلا أنهم لم ينفصلوا عنها عمليا، وهم أيضا يدعون انفصالهم عنها قيميا، وذلك بزعمهم عدم الاقتصار على الحرية الفردية، ومزاوجتها بالحرية الجماعية، فإن سلوكهم اليومي يدل على أنهم لا يدافعون إلا عن حرية أفراد معينين وجماعات معينة، خرجت عن إجماع الأمة. أما المساواة التي يردفونها بالعدالة الاجتماعية، فإنهم يركزون فيها على الشواذ عن قيم أمتنا.
وفيما يخص مبدأ التضامن فهو كسابقه لا يشمل إلا كل من يأتي محرما في ديننا، ليتم التضامن معه عوض نصحه، وإرجاعه إلى الطريق المستقيم، بهدف استعماله معول هدم.
أما الديمقراطية وحقوق الإنسان فهما الذريعتان اللتان يسوغ بموجبهما كل ما يناقض ديننا.
أما مبدأ السلام فهو مقتصر على من يدين بالكونية، أما من يرتضي الشريعة منهجا، فالحرب عليه مقدسة.
مجمل القول: إن اليسار المغربي عجز عن التخلص من الإرث الاشتراكي، ولم يستطع مقاومة إغراء الجشع الرأسمالي، فأصبح مثل الغراب الذي نسي مشيته، ولم يتعلم مشية الحمامة، فأضحى بمشية تثير السخرية والإشفاق.
فهو على المستوى الاقتصادي تلبس بالجشع الرأسمالي، وعلى المستوى القيمي تبنى المفاهيم الغربية مع زخرفة في الشكل، وعلى المستوى العقدي ظل متشبثا بفصل الدين عن الدولة.
ـــــــــــــــــــــ
[1] تفسير كلمة تلد: التالد المال القديم الأصلي الذي ولد عندك وهو نقيض الطارف. ابن سيده التلد والتلد والتلاد والتليد والإتلاد كالإسنام والمتلد الأخيرة عن ابن جني ما ولد عندك من مالك أو نتج …
[2] الطارف: المال المستفاد أو المستحدث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *