هذا الإمام الفذ الحافظ الفرد شيخ الإسلام..؛ قد أحسن بعض إخواننا المعاصرين إذ صنفوا كتابًا جامعاً لحياته المباركة على قصرها مقارنةً بالمعمرين -وهو باب من أبواب التأريخ التراجمي المتنوعة- فقد جُمعت في صعيد واحد؛ تطالع فيها كأنك معه بين مصر والشام وعلى أبواب دمشق والقاهرة… بيئةً ورجالاً وأعمالا وعلماً وزهداً وحسبةً، وابتلاءً وعزةً وخشوعاً وجهاداً ولطافةً…
سيرة غنية بحق؛ تأثرا وتأثيراً؛ وحياة جديرة بالتحليل والاهتمام؛ مؤلفاتٌ بين البيان اللطيف في نحو «الواسطية» إلى التعمق في الطوال «كالمنهاج والدرء والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح»، وتلامذة بين المطواع الأليف كابن القيم إلى المتوهج الشرود كالصفدي، رحم الله الجميع وألحقنا بهم صالحين.. ويكفي من سيرته الحافلة إشارة الحافظ الذهبي في معجمه -بتصرف-.
إذ يقول عنه: (..شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علماً ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويراً إلهياً، وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.. سمع الحديث…، وحصل ما لم يحصله غيره… برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها…
بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده. وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم، وحذّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين.
وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأّب النفاق وأبدى صفحته.
ومحاسنه كثيرة؛ وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه…
ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرّ الذي أدّاه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال.
مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله؛ فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية.
وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.
وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرب؛ وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالباً، والله يغفر له. وله إقدام وشهامة، وحِدَّةُ نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه..) اهـ.
رحمه الله وعلماء المسلمين أجمعين…
وأما فتاواه؛ وهي في معظمها تواليف؛ والفرق جلي عند العلماء بين أخذ العلم وعزوه لمؤلفات وضعت لشرحه؛ وبين فتاوى كتبت لشرح خواص الأحوال أو حوادث الأعيان…
وهذه مزلة وَأَدَتْ أَفْكَارَ كثيرٍ من الباحثين؛ فأخطأوا في تحرير العلم إذ لم يحرروا مظانه؛ كالذي يَنْقُلُ عن المالكية من كتب الشوافع؛ أو الذي يعتمد المذهب المالكي من طرر ابن عات؛ أو الذي ينقل السنن من كتب الغريب أو معاجم البلدان؛ أو اللغة من كتب الإعجاز والمجاز… وهذا أصل في البحث والمعرفة؛ تفويته يخل بكثيرٍ من التراتيب؛ ويوقع في إشكالات وصراعات فكرية؛ منشؤها عدم التحري في ترتيب المراجع ومصادر المعلومة وأسس العزو والتفريع والنسبة…
ولكن هذا المجموع لهذا الإمام ويقرب منه -على فروق لا يسع المقال لذكرها-:
1- الفتاوى الكبرى، و2- ومستدرك الفتاوى، و3- والرسائل والمسائل…
هو عبارة في الغالب عن مجموع مؤلفات على طريقة الأقدمين في ضم النظائر في مجاميع كما هو شائع في تاريخ المخطوطات والمكتبات؛ -وكما معروف من قصة جمعه وجامعه «القاسم» رحمه الله-؛ وهذا ما يجعلنا نطمئن لكثير من علومها بأنها تأصيلات يبنى عليها؛ وفيها معارف كانت مرهونةً بحالات معينةٍ أو فتوى أخص؛ هي أشبه بالعمليات والماجريات المشهورة في فقه المغاربة والأندلسيين…
وعلى كل حال فالتنبه يظل قائما حال الاقتباس أو العزو للعلماء؛ فلا يوضع الشيء إلا في محله ولا يخالف به عن أصول الأئمة..
ومعنا اليوم -ونرجو أن تدوم هذه المدارسات- جوابُ سؤالٍ؛ نراه مسامتاً لبعض نوازل عصرنا التي تحتاج إلى تكاثف جهود واجتهادات جمعية وجماعية؛ لتحرير منابع الإشكال ومحال النزاع؛ مما يقلل الخلاف ويقرب للوفاق… وبالأخص في المعاملات والسياسة والعلاقات …
سُئِلَ رحمه الله (انظر نصه 30/357 فما بعد)
(«عن رجل متول ولايات.. جرت العادة بوقوع ظلم ومظالم.. وهو يختار إسقاط الظلم أو إنقاصه؛ وإن تولى غيره فلن يخفف الظلم بل قد يزداد؛ «فهل يجوز بقاؤه على ولايته» و«هل عليه إثم في ذلك الفعل»).
هذا مختصره بتصرف وتقريب…
فأجاب الشيخ بما نصه: (الحمد لله؛ نعم إذا كان مجتهداً في العدلِ ورفع الظلمِ بِحَسَبِ إمكانِهِ، ووِلاَيَتُهُ خيرٌ وأَصْلَحُ للمسلمينَ من غيرِهِ..) ثم بيَّنَ رحمه الله: أنه يحرص على سد هذا الثغر ولا يفتحه لمن لا يرجى معه تقليل الشرور ودفع المظالم؛ وأن ذلك يتعدى درجة الأفضلية المُثابِ عليها إلى الواجبِ المُؤثّمِ بتركه.. فقال: (ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه -إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه- وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه).
ويقرر رحمه الله عِلَّةَ حُكْمِهِ ومستندَ فتواه حتى يتفقه الناظر في شبيهاتها؛ ويحسن تحقيق المناط في نظائرها؛ وهذا هو لبُّ الفقه السلفي والاعتصام الأوثق بهدي الكتاب والسنة؛ أن يتفقه في الأدلة بحسن فهم وسلامة تنزيل؛ مما يجعل العالم في منأى عن الملامة حتى ولو جانب الصواب في رأيه؛ لأن المعتمد تدليلا وتعليلا سليم لا غبار عليه..
فقال رحمه الله: (فَنَشْرُ العَدْلِ بِحَسَبِ الإمكانِ ورَفْعُ الظلْمِ بحسب الإمكانِ؛ فرضُ على الكفاية يقومُ كل إنسانٍ بما يقدرُ عليهِ من ذلك، إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه).