عندما يتحدث بنو علمان وبنو حداثة عن حقوق الإنسان يَسِمونها بالكونية، عوض العالمية أو الإنسانية؛ ولا أدري ماذا يعنون بالكونية! مادام الكون يشمل السموات والأرض وساكنوهما -فضلا عن الإنس- هم الجن والملائكة.
فما الداعي إلى مصطلح “الكونية”؟ إلا أن يكون هيامهم المطلق بكل ما يأتي من الغرب، إلى درجة إلغاء عقولهم، وترجمة المصطلح اللاتيني حرفيا، دون النظر إلى معناه، وهل يفي بالمقصود؟
أو أنهم لشدة تطرفهم، استعاروا لفظة مغرقة في الشمول، كدليل على رغبتهم في الهيمنة نظريا، بعدما استعصت عليهم الهيمنة الواقعية، لأن كونيتهم تصادم الهوية.
والعجيب الغريب، أنهم يتحدثون عن “الكونية” في إطار الوحدة، أو كأنها وحي منزل، ومقدس لا يطاله النقد، يجعلون من كائنات مستقلة عن بعضها البعض جسدا واحدا.
وفي المقابل، عندما يتحدثون عن الهوية، سواء المغربية أو العربية أو الإسلامية، لا يملون من وصفها بعدم التجانس، وعدم الانسجام، بل ويجعلون من العضو داخل الجسد، كيانا مستقلا بذاته، وكأن اليد أو الرأس أو أي عضو آخر، لا يمت إلى الجسد بصلة.
لأنه في الوقت الذي يتحدثون فيه عن وحدة وهمية مصطنعة في مختبرات المؤامرة الغربية، اسمها “الكونية”، لا ينفكون عن ضرب وحدتنا التاريخية والثقافية والفكرية والوجدانية، باسم التعدد الذي لا يرومون منه تكاملا، وإنما يقصدون منه تشرذما يصب في مستنقع كونيتهم الآسن، عسى أن نغرق في قنوات صرف ضياع الهوية وفقدان الذات، المصنوعة في مختبرات الخزي والعار.
ولو فرضنا ألا جدل ألا مشاحة في الاصطلاح، ولو أن الألفاظ قوالب المعاني، فماذا يعني القوم بهذه الحقوق؟
هل هي الحق في العدل، والحق في الكرامة، والحق في السكن، والحق في الصحة، والحق في المأكل الكريم، والمشرب الهنيء، وهلم جرا من هذه الحقوق التي لا يختلف عليها اثنان، لأنها من ضروريات الحياة الكريمة؟
لكن القوم لا يريدون عدلا، ولا كرامة، وإنما يريدون فرض نظرة معينة للكون والحياة والإنسان. وبالمثال يتضح المقال: فهم يريدون أن تتعرى الفتيات في الشوارع، والمواقع الإلكترونية، وقاعات السينما، وشاشات الرائي، وخشبات المسارح، وصفحات الجرائد والمجلات، حتى نصبح أينما ولينا وجوهنا فثم عري، ليهنأ بنو علمان وبنو حداثة بإشباع شبقهم، وإرضاء بهيميتهم، والدليل هو الدعوة لتقنين البغاء الذي دعت إليه الجريدة الإباحية.
وفي نفس السياق انتقدت، في بيان لها، ما تسمى “حركة اليقظة المواطنة” لجوء بعض المواطنين إلى الاعتصام، للمطالبة بسحب رخصة لبيع المشروبات الكحولية في جرف الملحة بإقليم سيدي قاسم، أو من خلال إنشاء “لجان شعبية لمحاربة الدعارة”، كما حصل في “عين اللوح”.
كما عبرت “اليقضة المواطنة” عن “قلقها” من خطورة الوقائع الآنفة الذكر، وأوعزت سبب الخطورة إلى نيابة المجتمع عن الدولة، وإلى تنصيب البعض نفسه حاميا للأخلاق العامة. وأرجعت أسباب انتشار السكر والدعارة للفقر والهشاشة..!
وهكذا يصر بنو علمان وبنو حداثة على فضح مستوى فكرهم الذي ينحسر في الكأس والغانية.
ولنا أن نسأل “اليقظة المواطنة” هل كانت نائمة عندما كانت حركة 20 فبراير تتظاهر؟ هل هذه الحركة [20 فبراير] من المجتمع أم هي جزء من الدولة؟ ولماذا لم ترفع “اليقظة” عقيرتها في وجهها، لأنها نصبت نفسها حامية عن حقوق المغاربة، أم هو الكيل بمكيالين؟
وهل كانت “اليقظة” تغط في نوم عميق عندما أغلقت دور القرآن؟ أم أن رواد هذه الأخيرة ليسوا من المواطنين الذين يستحقون الدفاع عنهم؟ أم أنه ليس من الحقوق الكونية الدفاع عنهم؟
وإن كانت الحجة هي الانصياع للقانون، فلماذا لم تنتظر “النسائيات” خروج القانون التنظيمي الذي يحدد ضوابط ﺣﻖ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﻌﺮﺍﺋﺾ، والذي ينص عليه الدستور، عوض التظاهر أمام البرلمان وداخل قبته، احتجاجا على عدم استوزارهن، أم أن غريزة الاستوزار فوق كل اعتبار؟
وإن شئت قل: إن الحقوق الكونية تخول لهن الدوس على كل قيد! لأن الحرية التي ينادين بها مطلقة، مثل: الحرية التي يدعو لها البلجيكي المتطرف الذي صور ابنته عارية من تحت نقاب مفتوح من الأمام، ومكتوب على صدرها “الإسلام أو الحرية؟”، وعلى أسفل البطن “أيهما تختار”!
وعلى الرغم من أن الواقعة حدثت في بلاد غير المسلمين، فقد انتفض لها المسلمون هناك في بلجيكا، لأنها تمس دينهم، بدعوى الحرية.
ونحن في دولتنا التي يدين دستورها وشعبها بالإسلام، علينا أن نصمت أمام أي مس بديننا، لأن الجهر بالحق يؤذي مسامع وقلوب بني علمان، ويشوش على حقوقهم الكونية المقدسة، وهم الشرذمة التي فضحت الانتخابات أمرها، مع أنها تنهج التقية الحداثية، ولو أفصحت عن كل أهدافها الحقيقية صراحة، لأصبحت سمعتها في الحضيض، كما هي الآن في مصر الكنانة، التي فُضِحت فيها “منظمات الحقوق الكونية” على رؤوس الأشهاد، حيث صرح وزير العدل المصري أن “المتهمين في القضية قاموا على أرض مصر بنشاط سياسي بحت، ليس له علاقة بالعمل الأهلي”.
مضيفا:”أن المتهمين الأجانب لم يحترموا القوانين المصرية المنظمة للإقامة والعمل في مصر، فكانوا يعملون لسنوات طويلة بتأشيرات سياحية”.
كما أشار إلى أن تلك المنظمات مارست نشاطا سياسيا مخالفا للقانون، مثل استطلاعات الرأي التي تضمنت أسئلتها أشياء لا يجوز طرحها على مواطنين في استطلاعات رأي خاصة بالعمل الأهلي.
وعدد أمثلة من تلك الأسئلة، كالديانة والزي الذي يرتديه الرجل جلبابًا أو غير ذلك، وكون المستطلعة آراؤهن منتقبات، أو يرتدين خمارات، أو غير ذلك، مشددًا على أن الغريب في هذا كله، هو عدم إفصاح هذه المنظمات عن تلك المعلومات في نتائج الاستطلاعات، وإرسالها إلى المراكز الرئيسية بالدول الأجنبية!
ولأن الأمر هنا يتعلق “بالحقوق الكونية” التي يجمع عليها الإنس والجن والملائكة، فقد استشاط مجلس العجائز الأمريكي غضبا وهدد بقطع المساعدة العسكرية عن مصر.
وقال فرانك وولف عضو مجلس العجائز الأمريكي: إن مداهمات المنظمات الحقوقية والداعمة لحقوق الإنسان تمثل انتهاكا لشروط المساعدات السنوية التي تمنحها واشنطن لمصر.
كما قالت المسؤولة عن المعونة الأمريكية كاي جرانجر، في هذا الصدد، إن المضايقات التي يتعرض لها الأمريكيون في مصر أثناء محاولتهم المساعدة لبناء الديمقراطية «أمر غير مقبول»، وأكدت على أنه: “لن يتدفق دولار واحد إلى الحكومة المصرية، حتى تؤكد لنا وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون أنه تم حل هذه المشكلة”.
كل هذه العاصفة الهوجاء، وهذا الاستنفار الشامل، لم نسمعه في حق المدنيين العزل الذين يبادون برصاص النظام النصيري في سوريا منذ ما يقرب من السنة، لأنه ليس من الحقوق الكونية إغاثة المظلوم، إن كان مسلما سنيا، حتى يعترف بالحقوق الكونية جملة وتفصيلا، وإلا لن يعد في عداد البشر.
إن الحديث عن الحقوق الكونية يوحي بأنها حقوق فطرية، خلقت مع الإنسان كالضحك والبكاء والتثاؤب، إلا أن الحقيقة هي أنها حقوق غربية محضة، يراد فرضها بقوة الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، وبأيدي بني علمان وبني حداثة من بني جلدتنا على ثقافات أخرى، مناقضة لها تماما.