مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام مكانة عظيمة القدر، رفيعة المنزلة، سامقة القمة، لا تحوي فضائله الكتب، ولا تحصر ثناءه الألسن، وأفضل من عزر النبي ووقره وعظمه هم صحابته عليهم الصلاة والسلام، فإن الناظر في حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومدى تعظيمهم لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسرعة مبادرتهم لتنفيذه، وتعظيمهم لشأنه صلى الله عليه وآله وسلم، فهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأصدقها حديثاً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأكثرها بلاءً وجهاداً في سبيل الله، خُيِّروا بين الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال والتجارات والديار وبين الله ورسوله والجهاد في سبيله، فطرحوا ذلك كله وراءهم ظهرياً، واختاروا الله ورسوله والجهاد في سبيله.
فقام أبو دجانة رضي الله عنه يوم أحد أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك، وتبع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عتبة بن أبي وقاص -الذي كسر الرَّباعية الشريفة- فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه.
وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما: أسلم فوالله إن تسلم أحبّ إليَّ من أن يسلم الخطاب وما ذاك إلاَّ لأنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم يكن لك سبقك.
وعن أنس بن مالك قال: (لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة قالوا قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة؛ فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أول؛ فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا قالوا أبوك أخوك زوجك ابنك، تقول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقولون: أمامك؛ حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب).
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
وعن عروة بن الزبير أن خبيب رضي الله عنه لما وضع المشركون فيه السلاح وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب محمدا مكانك؟ فقال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه.
قال عمرو بن العاص: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملا عيني منه.
وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس، فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويتبسمان إليه ويبتسم إليهما. كانوا يجلسون كأنما على رؤوسهم الطير.
وقال عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام الحديبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقاً، ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
فلما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه.
وفي رواية: إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه. وقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً.
ولما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في القضية أبى، وقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكانوا رضي الله عنهم يطيعون أمره ويجتنبون نهيه ولا يعبدون الله إلا بما شرع.
فهذه هي المحبة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالمحبة هي الاتباع.