مدخل إلى الاستغراب* -الحلقة الأولى- د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/ كلية الآداب تطوان

لا أحد يشك في أن تفاعل الحضارات يعتبر خاصية أساسية من خواص الحضارة الإنسانية، ويعبر عن الطبيعة التلقائية للحركة والعلاقات الاجتماعية بين مختلف المجتمعات البشرية.

وللتفاعل الحضاري أسباب وعوامل شتى؛ أهمها الغزوات والفتوحات، والعلاقات التجارية وتبادل الخبرات المادية والمعنوية. ثم إن الأشياء والإنتاجات المادية والوسائل التقنية غالبا ما تكون أسرع انتقالا من الأفكار والعقائد والملل.
ويلاحظ دارسو الحضارات أن قوة تأثر حضارة بحضارة ما، يتعلق بموقف إحداهما من الأخرى. فإذا كان الموقف يعبر عن نوع من الندِّية، كان التأثير المتبادل قائما على التوازن السليم، في حين إذا كان الموقف موقف إعجاب وانبهار من طرف إزاء طرف آخر؛ كان التأثر سريعا وعميقا من قبل الطرف الأول، قد يصل أحيانا إلى حد الذوبان.
ولعل العلاقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، خير دليل مجسد لموقف الإعجاب والانبهار.
ولقد تدرجت الشعوب الإسلامية -على طول هذه الفترة- في الانغماس في الحضارة الغربية والتأثر بقيمها وعاداتها، كما سعت طبقة المترفين وأنصاف المثقفين من المعجبين بأوربا، جيلا بعد جيل، إلى تحويل مجتمعها إلى مجتمع تابع للغرب، ولم تأل جهدا في الدعوة إلى التغريب.
وكان الاستعمار السياسي والعسكري للبلاد الإسلامية عاملا في تحريك عجلة الاستغراب والدفع بها إلى الأمام. فما أن انتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيدا للغرب الأوربي وخولا له.
فلما استيقظ المسلمون على إثر ضربات العدو المتوالية وصحوا من سكرهم، شرعوا في البحث عن الأسباب التي مكنت العدو من رقابهم وغلبت عليهم الأوربيين.
غير أن ميزان الفكر كان مختلا أشد ما يكون الاختلال، وقد تجلى هذا الاختلال في أن شعورهم وإحساسهم بالذلة والهوان، كان يحثهم على تبديل حالتهم المزرية، لكن رغبتهم في الراحة وإيثارهم الدعة والارتخاء -من جانب آخر- حملهم على التماس أقرب الطرق والوسائل، وأسهلها لتغيير تلك الوضعية.
وهكذا مال أولوا الأمر من الحكام ومن في حاشيتهم وعلى شاكلتهم، وكذا كثير ممن حمل راية الإصلاح من المفكرين والمثقفين، إلى محاكاة الغربيين في مظاهر تمدنهم وحضارتهم. ومن ثم لم تكن المحاكاة إلا الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن ترقى إلى استعمالها كل عقلية مرضية ومختلة.
إن هؤلاء الذين رفعوا لواء المحاكاة ومن تبعهم إلى الآن، يشكلون الجبهة الرابعة في الجبهات الأربع التي أنزلت الهزيمة بثقافتنا وبأصالتنا، وأبرزت ظاهرة الاستغراب.
وأولى تلك الجبهات تتمثل في المنصرين الذين عملوا على غزونا بواسطة المدارس والمؤسسات التعليمية والخيرية وشتى الإعانات. ثم جبهة المستشرقين طلائع الاستعمار، وذلك بما يبثونه في كتبهم من سموم تستهدف الأمة الإسلامية وتراثها، بالإضافة إلى خدماتهم الجليلة للمستعمر. وثالثا جبهة المستعمرين المكشوفة خلال الاستعمار والمتسترة أو غير المباشرة بعد مجيء الاستقلال.
والجبهة الرابعة هي الجبهة الداخلية، جبهة منا وإلينا، عملت من حيث تدري أو لا تدري على تسهيل مهمة الغزو الاستعماري، بل منها من شارك المستعمر القديم ويشارك الغزاة المعاصرين في صرفنا عن أصولنا وجذورنا، بل وفي غسل أدمغتنا من كل ماله علاقة بماضينا وتوجيه قبلتنا نحو الغرب.
لقد سعت هذه الجبهة المستغربة -بكل ما أوتيت من وسائل- إلى استيراد الثقافة الغربية، حتى أصبحت هذه الثقافة في ثقافتنا المعاصرة، ظاهرة تدعو للانتباه، وغدا العالم هو الذي له دراية بالتراث الغربي “وأصبح العلم نقلا؛ والعالم مترجما؛ والمفكر عارضا لبضاعة الغير”.
“فإذا بدأ التأليف، فإنه يكون أيضا عرضا لمادة مستقاة من الغرب حول موضوع ما، وإعادة ترتيبها، وكأن ما يقال عن الشيء هو الشيء نفسه، يكفي الجامع معرفته باللغات الأجنبية، وقدرته في الحصول على المصادر، وجهده وتعبه في الفهم والتحصيل، ووقته الذي وهبه للعلم، وهو لا يعلم أنه واقع ضحية وهم أن العلم هو جمع المعلومات وليس قراءتها، أو استنباط علم جديد منها، أو معرفة كيفية نشأتها في بيئتها، أو التنظير المباشر لواقعه الخاص لينشئ منه علما جديدا يضاف إلى المعلومات القديمة(…).
وكثرت الرسائل العلمية حول الموضوعات الغربية عرضا وتقديما للمذاهب والمناهج الغربية، حتى أصبحت مرادفة للعلم. فالعالم هو الحامل لها، المتحدث عنها، المؤلف فيها.
كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول. وتكثر الدعاية بالرجوع إلى المصادر والمراجع بلغتها الأصلية، وكتابة المصطلحات بالإفرنجية أمام المصطلحات العربية خوفا من سوء الاجتهاد، والشكوى من عدم طواعية اللغة العربية لمقتضيات المصطلحات الحديثة.
وكثر تأليف الكتب الجامعية في المذاهب الغربية (…) وتنشأ المجلات الثقافية المتخصصة لنشر الثقافة الغربية، كما تقوم بذلك مراكز الأبحاث العلمية الغربية في البلاد. وتنتشر العلوم والأسماء الجديدة أمام شباب الباحثين فيشعرون بضآلتهم أمامها:
الهرمنيطيقا، السميوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترنسندنتالية.
وتكثر عبارات: التمفصلات، التمظهرات، الإبستيمة، أبوخية، الدياكرونية، السنكرونية..الخ.
أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك، متأثرا بهذه الدراسة أو تلك (…).
ثم ظهر في جيلنا “استغراب” مقلوب؛ بدلا من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه، رأى صورته في ذهن الآخر، بدلا من أن يرى الآخر في مرآة الأنا رأى الأنا في مرآة الآخر.
ولما كان الآخر متعدد المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه، نبدأ بمرآة الآخر في صورة الأنا فيها، مثل “الشخصانية الإسلامية”، “الماركسية العربية” أو “النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية” أو “الإنسانية والوجودية في الفكر العربي”.
ويمكن أن يستعار المنهج الغربي وحده بدلا من المذهب، وبالتالي يـدرس التراث بمنهج ماركسي أو بنيوي أو ظاهراتي أو تحليلي، يضحى بالموضوع في سبيل المنهج، وكأن الموضوع لا يفرض منهجه من داخله، وكأن الحضارة التي ينتمي إليها الموضوع لا منهج لها. بل إنه يصعب في الفلسفة الأوربية ذاتها التفرقة بين المذهب والمنهج”. (د. حسن حنفي؛ مقدمة في علم الاستغراب؛ ص: 72ـ73ـ74).
ومن ناحية العامل النفسي في نشوء ظاهرة الاستغراب، يمكن القول إن البون الشاسع على المستوى العلمي والتكنولوجي والثقافي، بين المجتمع المغربي والمجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان له التأثير العميق في نفس الرجل المغربي، وهو يلاحظ عجزه أمام قوة الغازي المستعمر المتسلح بكل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية.
لقد فوجئ الرجل المغربي آنذاك وأخذ على غـرة، واكتشف أن ما يملكه من عتاد وأدوات الإنتاج وثقافة هزيلة، لا يمكنه من الصمود أمام المستعمر الغاشم. في حين كانت ردود المغاربة -إذا استثني المجاهدون وبعض المصلحين- تتسم عموما بالطابع السلبي على اختلاف أنواعـه.
إذ منهم من نظر إلى المسألة من زاوية “القضاء والقدر”، والتزم الصمت دون أن يسلم من المعاناة النفسية.
ومنهم من انتسب إلى مختلف الطرق الصوفية ولاذ بالزوايا وعاش في عالم الطقوس والخرافات و”الكرامات”.
بهذه الوسيلة استطاع أن يخدر عقله “ويتعالى” عن واقعه، ويحلق في عالم “الملكوت”. وبالنسبة له، ليس هناك استعمار أكبر من استعمار النفس لصاحبها، فاشتغل بإصلاح نفسه عن طريق الرقص وممارسة الشطحات الصوفية.
البعض الآخر انبهر بما حمله المستعمر من وسائل تكنولوجية، وأشياء حضارية راقية وثقافة متطورة، وأسلوب “رفيع” في الحياة. فلم يتمالك نفسه واندفع محاولا الاستفادة من هذا الجديد والإصابة منه. وهذه الفئة المنبهرة التي أصبحت أسيرة مستغربة، لم يتعامل أفرادها مع الاستعمار ومعطياته تعاملا واحدا، وإنما تنوع سلوكهم تجاهه بتنوع طبقاتهم الاجتماعية وظروفهم الخاصة.
فبعضهم سلك في البداية سبيل التوفيق بين ثقافته وعاداته وثقافة المستعمر، لكنه في منتصف الطريق غالبا ما كان يميل إلى الثقافة الثانية، لقوة جذبها ولكون الانبهار قد حصل في الوهلة الأولى. ويمثل هذه الفئة مختلف شرائح الطبقة البورجوازية المغربية.
وذلك أن هذه الطبقة -بعد أن أخد المستعمر بناصية الاقتصاد المغربي- أصبحت بين خيارين؛ إما أن تضحي بمصالحها المادية والطبقية فلا تتعامل مع اقتصاد المستعمر، وبالتالي تحافظ على ثقافتها ودينها وهويتها، وإما أن تظل في وضعيتها الطبيعية مع خضوعها للشروط الاقتصادية الجديدة. وفي أغلب الأحيان كانت تفضل الخيار الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من كتاب: الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *