الاستغراب في فكر الدكتور عبد الله العروي -2- د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/كلية الآداب تطوان

تاريخ المغرب
لا أحد في الأوساط الثقافية المغربية يشك أن الدكتور عبد الله العروي يعتبر من الكتاب المغاربة المهتمين بتاريخ المغرب، وممن لا يستهان بمساهماتهم الإبداعية في مجال فن التاريخ. لعل شهرته في هذا الباب قد طرقت أسماع كثير من المثقفين الغربيين خصوصا وأن مفكرنا يكتب بالفرنسية والانجليزية إضافة إلى العربية.
في مقدمة كتابه (مجمل تاريخ المغرب) يقول: «إن القارئ غير راض عما يجده اليوم في السوق من الكتب حول تاريخ المغرب، إذا رجع إلى المؤلفات القديمة وجـدها مليئة بالحروب والثورات والخرافات وأشعار المناسبات. وإذا التفت إلى الرسائل الجامعية، تاه في نظريات مبهمة عن المنهج، أو في تحليلات دقيقة حول منطقة أو أسرة أو تنظيمة اجتماعية. وإذا التجأ إلى كتب الأجانب رآها تزخر بأحكام استعمارية تعكر عليه صفو يومه، فيسخط ويقول: أين مؤرخونا؟ لماذا لا يعيدون كتابة تاريخنا؟»[1].
يفهم من هذا النص أن كاتبنا يدعو إلى تجديد الكتابة التاريخية حول المغرب عبر تجاوز الكتابة المغربية التقليدية؛ مثل كتابة الناصري، وابن زيدان، ومحمد داود، والمختار السوسي. ومن جهة أخرى عن طريق نقد الكتابة الاستعمارية وكشف خلفياتها وتناقضاتها. لكن هل يستعمل الدكتور عبد الله العروي في محاولته التجديدية وتحليله لتاريخ المغرب المنهج العلمي الموضوعي السليم أم ينطلق من إطار إيديولوجي معين؟
لاشك أنه ليس في مقدوره  -ولا في مقدور أحد من الباحثين- أن يدرس تاريخ المغرب بروح علمية متجردة غاية التجرد، لكون علم التاريخ يعد من أعقد العلوم الإنسانية على الإطلاق، حيث تمتزج عقلية الدارس بالموضوع المدروس أيما امتزاج، وبالتالي يستحيل أن يكون حكم المؤرخ على واقعة أو حدث تاريخي معين حكما موضوعيا تماما.
وغني عن البيان أن العلوم الإنسانية وعلى رأسها علم التاريخ وعلم السياسة وعلم الاجتماع، مازالت تعاني منذ أزيد من قرن آثار مشكلة المنهج، ولا تبدو في الأفق تباشير فجر جديد بالنسبة لهذه العلوم. ومما يزيد في الطين بلة أنها ما فتئت مرتبطة بالمصالح السياسية والإيديولوجية للحكومات، وأصحاب السلطة والقوة في الغرب.
إن التجديد في الكتابة التاريخية بالنسبة للدكتور العروي يكمن أساسا في تبني المنهج الماركسي. لكنه لم يلتزم به ولم يتخذ موقفا حاسما كما ادعى، من رؤية المؤرخين المغاربة التقليديين، ورؤية المؤرخين الأوربيين ذوي النزعة الاستعمارية، إذ كثيرا ما يفسر بعض التحولات والوقائع التاريخية في المغرب مستلهما تحليل أولئك المؤرخين، وبالتالي يكون قد أخل بالوفاء للروح التجديدية التي أفصح عنـها في مقدمة الكتاب.
ومن بين النصوص المؤكدة لذلك قوله: «كانت كل مناطق الإمبراطورية الأسيوية والإفريقية تعرف نفس المعضلات، لذا عندما استجاب جيران الروم الجنوبيون، أي العرب، إلى دعوة الإسلام وتوحدوا في نطاق دولة فتية وخرجوا من الجزيرة، فإنهم انتظموا بدورهم في سلك الورثة. دخلوا المغرب بصفتهم فاتحين منتصرين على الروم، وخلائفهم على ما بيدهم. تحكم من جديد منطق الوراثة في مجرى الأحداث فاضطر العرب بعد المحاربة إلى تقليد سياسة الروم وواجهوا نفس الصعوبات. هكذا تعاقب على حكم المغرب الوندال من 429م إلى 533م، ثم البيزنطيون من 533م إلى 649م ثم العرب من 649م إلى ثورة الخوارج سنة 714م. يخدع بسهولة المتغلب اللاحق المتغلب السابق ثم يواجـه الصعوبة الحقيقية ويعجز عن إخضاع السكان الأصليين. يـنزع الفاتح الحكم من فاتح سابق ثم لا يتعدى المنطقة التي تعود المغاربة منذ زمن طويل أن يروها خارج قبضتهم. تظهر الأحداث وكأنها تعيد نفسها»[2].
«تصرف العرب كالوندال والبيزنطيين أي كورثة، ومن يدعي أنهم خرموا عقد سيرورة المغرب فإنما يتذرع بشيء غير موجود لإبداء أحكام واهية»[3].
لولا أني أعلم أن كاتب هذين النصين هو د.عبد الله العروي، لجزمت أنهما من كلام مستـشرق مثل( ليفـي بروفنـسال)،  أو مبعوث إثنولوجي مثل (إدمونـد دوتـي) أو مؤرخ استعماري مثل (جول إيركمان). كيف يتسنى لدارس أن يماثل بين أهداف الرومان والوندال من جهة، وأهداف الفتح الإسلامي من جهة ثانية؟
وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يتبن البرابرة حضارة الرومان وثقافتهم؟
ثم أليس دخول البرابرة في الإسـلام وتصاهرهم مع المسلمين الفاتحين وغيرهم من المهاجـرين، دليـلا قاطعا على اقتناعهم بأن هؤلاء الفاتحين ليسوا من جنس الغزاة المستعمرين؟
أم أن كاتبنا يتجاهل حقائق تاريخ المغرب؟
كما إن قوله: «..ومن يدعي أنهم خرموا عقد سيرورة المغرب فإنما يتذرع بشيء غير موجود لإبداء أحكام واهية..« الخ؛  يعبر عن الفكر التاريخاني الذي طالما أشاد به، ذلك الفكر الــــذي لـه علاقة مباشرة بالماركسية.
وقد جاء في كتابه: (أزمة المثقفين العرب تقليدية أم تاريخانية):
«تستمر الغالبية العظمى من المثقفين العرب في ميلهم إلى السلفية والانتقائية، وما هو أغرب من ذلك أيضا اعتقاد هؤلاء المثقفين في أنهم يتمتعون بحرية كاملة تسمح لهم بحيازة أفضل منتجات الآخرين الثقافية. فيالها من حرية أشبه بحرية العبد الرواقي!
إن الوسيلة الوحيدة للتغلب على هذين النمطين من الفكر نجدها في الانقياد الدقيق لنظام الفكر التاريخي، مع تقبل جميع افتراضاته. وقد سبق لنا أن عرفنا أهمها. فبعضها يحدد التاريخانية: الحقيقة من حيث هي سيرورة وموضوعية الحديث، والتحديد المتبادل للوقائع ومسؤولية الفاعلين. ويحدد التاريخانية آخرون: وجود قوانين التطور التاريخي، وحدانية اتجاه التاريخ، قابلية نقل المكتسبات، فعالية دور المثقف والسياسي. وقد حللت هذه النقاط المختلفة باقتضاب تقريبا في الصفحات السابقة، وانتهينا في ذلك إلى أن أفضل مدرسة للفكر التاريخي يجدها العرب اليوم في الماركسية مقروءة بطريقة معينة»[4].
معنى هذا أن كل الفتوحات والغزوات التي خضع لها المغرب تعتبر حلقات في إطار سيرورة تاريخية، هذه السيرورة التي ستعبر عن أسمى مراحلها مع تحقيق الماركسية الشيوعية.
ويقول أيضا مستلهما أفكار المؤرخين الاستعماريين: «بعد برهة وجيزة خضع العرب بدورهم للضرورة وقنعوا بما قنع به كل الفاتحين من القرطاجيين. صحيح أن العقيدة الإسلامية غزت مغرب الوسط ومغرب الصحراء، لكن بعد تطور بطيء ولأسباب يجب أن تدرس في محلها، أي في الوقت الذي كان فيه أكثر فعالية. الفتح العربي أمر عادي من الوجهة التاريخية، لا يعجب منه ولا يستنكره إلا من له مقصد معين. دعا العرب الناس إلى عبادة الإله الواحد، هذا كل ما فعلوه، وهل أحس المغاربة فعلا أن الدعوة جديدة عليهم؟»[5].
يستنتج من هذا الكلام أن كاتبنا ينفي نفيا قاطعا أن يكون الفتح الإسلامي للمغرب يحمل مزايا أو خصائص تدعو للإعجاب، ومعنى هذا أن رسالة الإسلام التي حملها الفاتحون إلى المغرب لا تعني شيئا بالنسبة إليه. كما أنه ليس من المنطقي استنكار هذا الفتح مادام يشكل حلقة من حلقات السيرورة التاريخية. ولا تعدو أن تكون تلك الرسالة مجرد دعوة دينية بسيطة لم يلمس منها المغاربة آنذاك أي شيء جديد. أي أنهم اعتبروها كالدعوة المسيحية.
بيد أنه إذا كانت الحقيقة فيما يدعى، لماذا دان البربر بالإسلام ودافعوا عنه بشجاعة واستماتة لم يسبق لها مثيل في تاريخهم؟
ومن أمثلة هذه الاستماتة خروجهم بعد اعتناقهم لمذهب الخوارج ضد الجيوش المبعوثة من قبل بني أمية، حيث يحدثنا التاريخ أنهم كثيرا ما كانوا يلحقون بهذه الجيوش هزائم منكرة.
وعندما يفسر كاتبنا سبب إسلام المغاربة بعد الفتح يقول: «أسلم المغاربة كلهم فيما بعد.. هذا صحيح، لكنه بعد قرون ولدوافع كلها جديدة، منها أولا إرادة الاستقرار في البلاد عند الفاتحين العرب، لم تكن هذه الإرادة واضحة لدى الفنيقيين والرومان»!![6].
ما هذا المنطق؟
أين هو التحليل الموضوعي النزيه؟
أولا يدري كاتبنا أن أقواما كثيرين دخلوا في الإسلام دون فتح، ولا وجود نية في الاستقرار، بل مجرد الدعوة إلى الله، كما حصل في قبائل شتى من قبائل الجزيرة العربية، أو عن طريق التجارة كما كان الحال بالنسبة لجزر أندونيسيا ولجمهوريات روسيا الإسلامية.
ولو افترضنا أن المسلمين غادروا أرض المغرب بعد استقرارهم ما يقرب أو يزيد عن قرن -أي ما يقل بكثير عن استقرار الوندال والرومان- من الزمان وتركوا زمام أمور الدولة في يد البربر، هل معنى ذلك أن الدولة الإسلامية ستصبح أثرا بعد عين؟ وأن المجتمع البربري بأكمله سيرتد عن دينه ويعانق الوثنية من جديد؟
ثم ما هو الدليل على قوله: «إن إرادة الاستقرار لم تكن واضحة لدى الفنيقيين والرومان»؟
هل كان شاهدا على عقد الحماية بين الطرفين، أو التوقيع على وثيقة تخول للفنيقيين أو الرومان المكوث بالمغرب لأجل مسمى؟ أم هو مجرد تخمين. ولعله تخمين غيره من المؤرخين الأوربيين.
ومتى كان المستعمر ينوي عدم الاستقرار بأرض وطئتها قدمه؟
لما غزت فرنسا مثلا أرض الجزائر هل كانت تنوي الخروج لولا إرادة  الجزائريين؟
وإذا كانت فرنسا القرن التاسع عشر الميلادي تفكر -بالرغم من مناداتها آنذاك بشعارات الثورة؛ وهي الحرية والعدالة والأخوة- في إلحاق أرض الجزائر بأرضها إلى الأبد، ماذا عسانا نقول بالنسبة لدولة عسكرية استعمارية كدولة الرومان؟
ـــــــــــــــــــــــــــ

1- د. عبد الله العروي؛ مجمل تاريخ المغرب.
2- د. عبد الله العروي؛ مجمل تاريخ المغرب، ص:97-98.
3ـ نفس المرجع، ص:119.
4- د. عبد الله العروي؛ أزمة المثقفين العرب تقليدية أم تاريخانية؟ ص:152-153.
5- د. عبد الله العروي؛ مجمل تاريخ المغرب، ص:119.
6 ـ د. عبد الله العروي؛ مجمل تاريخ المغرب، ص:118.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *