الاستغراب في فكر الدكتور عابد الجابري -5- (الانتصار للعقلانية الغربية) تتمة د.عبد الله الشارف كلية أصول الدين/كلية الآداب تطوان

إذا كانـت الـمناهـج الـعـلمـية المعاصرة قـد أفرزتها الحضــارة الغـربـية لتتخـذها -بالأساس- أداة لفهم وتحليل ثقافاتها الأوربية، أي أن هذه المناهج تم وضع هندستها وشكلها ليتناسب مع تلك الثقافات، فكيف يتأتى لنا استعمالها لتحليل ثقاقتنا الذاتية؟
قد يجيب الأستاذ الجابري بقوله: «إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تـؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع إنساني عام. فإذا استطعنا أن نربط هذه المفاهيم بمرجعياتنا أي أن نبيئها (من البيئة) في محيطنا وثقافتنا فإنها ستصبح ملكا لنا»1.
هذه الإجابة وجيهة ومنطقية إلى حد ما، ولكن كيف السبيل إلى هذه “التبيئة” (إن صح التعبير)؟
وهل وضع لها كاتبنا إطارا نظريا أو خطة منهجية دقيقة ومناسبة؟!
كلا إنما نجده في كتاباته يتبنى كل ما يجذبه ويستلبه ويأسره من مفاهيم وتصورات غربية ولا “يبييء” منها شيئا.
من ذلك قوله: «سيلاحظ القارئ أننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو “قراءات” مختلفة متباينة، مفاهيم يمكن الرجوع ببعضها إلى “كانت” أو “فرويد” أو “التوسير” أو “باشلار” أو “فوكو” بالإضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها»[2]..؟!!
أو قوله: «استعرت عبارة الاستقلال التاريخي للذات من غرامشي».[3] ويقول أيضا: «هيمنة النموذج السلف، رسوخ آلية القياس الفقهي، التعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية، توظيف “الايديولوجي” في التغطية على جوانب النقص في “المعرفي”، جوانب النقص في المعرفة بالواقع..
تلك هي الخصائص الأساسية للخطاب العربي الحديث والمعاصر أبرزناها منفصلة بين ثنايا الفصول السابقة. وعدنا فأكدنا على ترابطها البنيوي في هذه الخاتمة. وسواء اعتبرنا هذه الخصائص المترابطة سببا أو نتيجة فإن هناك واقعة أساسية لابد من ربطها بها. ربط علة بمعلول أو معلول بعلة، هذه الواقعة هي افتقاد الذات العربية المعاصرة إلى ما عبر عنه غرامشي بـ”الاستقلال التاريخي التام” أو بالأحرى عجزها عن تحقيق هذا الاستقلال.
إن الافتقاد إلى “الاستقلال التاريخي التام” يجعل الوعي، وبالتالي الخطاب المعبر عنه، محكوما بنموذج-سلف، أو مشدودا إلى البحث عنه. والعكس صحيح أيضا: فهيمنة النموذج- السلف ورسوخ آلية القياس في الفكر يجعلان الذات عاجزة عن تحقيق استقلالها التاريخي إزاء “الآخر”.. مهما كان هذا الآخر من القوة أو الضعف.
وإذن فالمهمة الأولى والأساسية المطروحة على الساحة العربية الراهنة هي تحقيق “الاستقلال التاريخي التام” للذات العربية، فبه؛ وبه وحده، تتحرر من الانسياق وراء أي نموذج، وبه؛ وبه وحده، تتحرر من آلية القياس التي تشدها دوما إلى نموذج سلف، إلى “أصل” فكيف السبيل إذن، إلى تحقيق “الاستقلال التاريخي” للذات العربية؟
سؤال لابد من إعادة صياغته بالشكل الذي يتجه به إلى الواقع المعطى، وليس إلى الواقع المأمول وحده.
إن البحث عن “السبيل” يجب أن يكون انطلاقا من واقع معين، واقع حاضر وليس من واقع غير معين، واقع “الحلم” والأمل. وإذن فالسؤال يجب أن يطرح أولا بالصيغة التالية:
ما الذي أفقد ويفقد الذات العربية استقلالها التاريخي التام؟
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الجواب عن هذا السؤال قد تردد في كل صفحة من صفحات هذا البحث، أي في كل فقرة من فقرات الخطاب العربي الحديث والمعاصر: إنه الـ”نحن” و”الآخر”. إنه النموذجان اللذان يتجاذبان الذات العربية منذ بدء يقظتها الحديثة: النموذج العربي الإسلامي والنموذج الأوربي. وإذن فسبيل تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية هو التحرر من النموذجين معا، أعني التحرر من سلطتهما “السلفية” سلطتهما المرجعية»[4]؟!
هكذا “يبيء” و”يستنبت” كاتبنا الدكتور عابد الجابري مفاهيم ومقولات العلوم الإنسانية والفلسفية ويستعملها كمعاول لهدم الثقافة الإسلامية.
والحقيقة أنه بدلا من موقف الاستغراب والذوبان الذي اتخذه الجابري إزاء هذه المفاهيم والتصورات والمقولات، ينبغي التفكير بكل أناة وروية في رسم خطة حكيمة للاستفادة منها، خطة تأخذ بعين الاعتبار -بالدرجة الأولى- شروط وخصوصيات الثقافية الإسلامية الأصيلة، وتعمل على صياغة ما يصلح لنا من تلك المفاهيم صياغة ملائمة ومنسجمة مع روح الحضارة الإسلامية.
..وفي النص الثاني يرى الجابري أن ممارسة العقلانية في تراثنا تقتضي “فضح أصول الاستبداد ومظاهر هذا التراث”، وكأن هذا الأخير عدو مستبد وقاهر ينبغي التخلص منه بالقضاء عليه. ولعل كاتبنا قد تقمص الروح النقدية التي نجدها عند بعض كتاب النهضة الأوربية، وكثير ممن أتوا بعدهم من الذين حملوا على المسيحية والكنيسة التي وصفوها بالاستبداد.
فالتقارب والتماثـل بين الموقفين واضح وجلي وعندما يتسنى لنا “فضح الاستبداد ومظاهره” في تراثنـا ونجـرده من كـل قداسـة وتعـظيم، فإننـا سنضـع عنا أغـلال الماضي وقيوده وسنصبح قادرين على “تأسيس حداثة خاصة بنا” ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة.
لكن هل نستطيع فعلا أن “نؤسس حداثة خاصة بنا منسجمة مع ذواتنا” والحال أننا تبرأنا واتهمنا وعادينا رصيدنا الثقافي والحضاري، بل رمز هويتنا أي تراثنا؟
ثم هذا “الانخـراط” -الذي يدعو إليه الجابري بعد أن نكون قد تجردنا من مقوماتنا التراتية- في الحداثة المعاصرة العالمية، ألا يعني الذوبان في الحضارة الغربية التي تتبجح بكونها حضارة عالمية؟
ويتمحور النص الثالث حول أهمية العنصر الفلسفي والمزاوجة بين الفلسفة والعقلانية. ودعوة الجابري إلى الاهتمام القوي بالفلسفة تتلائم مع تفكيره الاستغرابي لكونه يعلم بأن الفلسفة الأوربية الحديثة انطلاقا من عصر النهضة، لعبت دورا أساسيا في إنزال الهزيمة بأنصار المسيحية والتراث الأوربي.
ومن هنا فإن زرع مفاهيم هذه الفلسفة وأدواتها النقدية في المجتمعات الإسلامية سيساعد على تهميش التراث العربي الإسلامي وإضعاف صورته المقدسة. كما أن تسليط الأضواء على الفلسفة الإسلامية والعمل على إحيائها، سيجعل منها أهم شيء يتميز بها تراثنا وبالتالي يعتبر أهلا للعناية والدراسة.
ـــــــــــــــــــــــ
1- ـ د.محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، ص:287.
2- ـ د. محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر ص:12.
3- ـ د. محمد عابد الجابري: التراث والحداثة، ص:282.
4- ـ د.محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، ص:188.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *