المنهاج النبوي لتخريج العدليين والإحسانيين (2) د. محمد وراضي

إن ما اتفق عليه علماء الأمة، وكبار شيوخها، وفقهاؤها، هو أن السنة أقوالُ الرسول وأفعاله وتقريراته. وما صح عن أي صحابي ولا عن أي تابعي، ولا عن أي إمام من أئمة المذاهب الفقهية الكبرى، ولا عن أي إمام من كبار المحدثين، أن السنة هي المنهاج؟ والمنهاج كما هو بيِّن له أكثر من مدلول، فتكون مدلولاته جميعها غير مدلول السنة المذكور قبله. إنه الطريق الواضح؛ والسلوك البين؛ والسبيل المستقيم. والمنهج أو المنهاج الدراسي كمجرد مثال، هو «مجموعة من المواد الدراسية والخبرات العملية الموضوعة لتحقيق أهداف التربية والتعليم»، يعني أن للمنهاج معنيين قارين: كيفية التلقين أو التدريس أو التربية، والمواد العلمية التي يجري تلقينها، مما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت السنة تحمل نفس المعنيين، أو هي بيان شاف للوارد في الذكر الحكيم على المستويين: النظري والتطبيقي، عملا بقوله عز وجل -وخطابه موجه إلى رسوله-: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}.
وبيان ما نزل إلى البشرية جمعاء، إنما يتم بأقوال رسول الله وبأفعاله، وبتقريراته؛ وهذا الثالوث بالذات هو السنة كما تقدم. والخلط بين الكتاب والسنة والمنهاج النبوي، وكأنها ذات دلالة واحدة، جناية على الدين، صاحبها يسأل عنها في الدنيا قبل الآخرة! فأن نكذب الصحابة وعلماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن نخالفهم جميعهم بخصوص تحديد مفهوم السنة، إما جهل مخالفهم بالدين، وإما تطاول على العلم به!
ثم يزداد الخلط قتامة عند الرجل حينما يقول: «والسنة هي المنهاج! والمنهاج صحبة وجماعة وذكر بالمبايعة الصادقة الوفية» (الإسلام بين الدعوة والدولة، ص: 286). يعني بصريح العبارة أن السنة لم تعد هي أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته، وهو ما اتفق عليه علماء الأمة وكافة المحدثين! وإنما هي عند ياسين صحبة وجماعة وذكر بالمبايعة الصادقة الوفية! دون أن يلتفت صاحب هذه المقولة المخالفة للإجماع، ولا التفت من يُنظر إليهم ككبار أتباع من صدرت منه، إلى الهدف الصوفي الطرقي الضلالي الظلامي الذي تخفيه من ورائها! والذي هو تزكية وامتداح لنهج الشيوخ في تربية مريديهم المخدوعين! كما تم خداع شيخهم المستفيد من توجيهات شيخين بودشيشيين هما عباس بن المختار، وخليفته وولده حمزة بن العباس!!
إن ياسين يريد بكل بساطة أن يوهم قراء ما كتبه، وأن يوهم أتباعه بأن الطرق التي عليها المشايخ الصوفيون، لتمكين مريديهم من تربية روحية عالية، لم تكن في الواقع سوى سنة نبوية يجري تطبيقها جماعة حول شيخ يبايعه من يبايعه مبايعة صادقة وفية، أي من يريدون الالتزام بنهجه في التربية، بحيث إنهم يصبحون بمبايعتهم له كالصحب الكرام الذين بايعوه صلى الله عليه وسلم والتزموا بطاعته، وقبلها بطاعة ربه، دون أن يخرجوا عن أقواله وعن أفعاله وعن تقريراته قيد أنملة!
والمعنى الصريح الواضح لمقولة ياسين، هو دفاعه المستميت عن اختيارات المتصوفة الذين طالما خبطوا خبط عشواء! وسلكوا في الوقت ذاته مسلك حاطب ليل! ثم إنه إعلان منه -اقتداء بالغزالي الذي يمتدحه- أن العلماء والفقهاء، والمحدثين والمتكلمين، وكل عباد الله، أبعد ما يكونون عن فهم السنة والإمساك بها، تماما كما فهمها الصوفية عامة، والطرقيون خاصة، وعملوا بها كقناعات لهم وكممارسات تعبدية، غيرها من ممارسات تعبدية أخرى لا تعادلها، وكيف لها أن تتجاوزها أو تتفوق عليها!!
إنها إذن رسالة ياسين التي غاب مدلولها عن كل من تعلقوا به كمريدين، كما غابت عن علمائنا الذين يتحركون خاصة على الصعيد الرسمي، والمفروض منهم تقديم العون لتدبير الشأن الديني، وراء قائد سفينة هذا التدبير، وزير الأوقاف الذي يشاطر ياسين من صميم قلبه مقولته المتقدمة، لأنهما معا ينتميان إلى طريقة صوفية واحدة مشبوهة!!
والسؤال المحوري، بعد كل التوضيحات المتقدمة، هو: هل صح أن ياسين وشيخيه المذكورين قبله، لم يخرجوا عن المنهاج النبوي الذي هو السنة! نقصد أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم؟
للإجابة على هذا التساؤل، نحيل القراء ممن يهمهم أمر ياسين المنادي ببناء دولة إسلامية بمغرب اليوم، استنادا إلى الدعوة الصوفية، على كتابنا الصادر عام 2010 «خريج المدرسة البودشيشية المشبوهة: عبد السلام ياسين». وسوف يجد كيف أن المدرسة التي تخرج منها وكر للبدع والضلالات التي حذر الله ورسوله من الالتجاء إليها، في غير ما آية، وفي غير ما حديث؛ وإلا تم الوقوع في نفس ما وقع فيه اليهود والنصارى عندما توغلوا في الابتداع والمغالاة، فكان أن تعرضت التوراة والإنجيل لتحريف حدد غير المسلمين من قوم عيسى مختلف أنواعه! يكفي قول فولتير بأن «الثالوث الأقدس: الأب والإبن وروح القدس، لم يظهر التمسك به إلا في عهد جيروم»! أي بعد رحيل سيدنا عيسى عليه السلام عن الفانية بأربعة قرون!
وشبيه بمسخ الدين وتشويهه وتحريفه الذي حدث على يد الرهبان، ما تجسده قناعات ياسين وممارساته الصوفية داخل الزاوية البودشيشة وخارجها! وإلا تساءلنا: أوَلم يكن ممن يرقصون ويذكرون الله جماعة في مسمى الحضرة أو العمارة؟ وداخل العمارة، أولم يردد الذاكرون المنتظمون فيها اسم الجلالة «الله الله» لمئات المرات جهرا بالليل أو بالنهار؟ والنبي صلى الله عليه وسلم -إن كان المنهاج هو السنة- هل كان يعقد حلقات للذكر على هيأة الاجتماع؟ وإن كان يعقدها فلماذا يعتبر الإمام مالك من يعقدونها صبيانا أو مجانين؟ وما الذي نفسر به قوله: «ما سمعت بمثل هذا في الإسلام»! بعد أن أخبره عنهم طالب علم وافد عليه من خراسان؟؟
وهل أوصى صلى الله عليه وسلم بمبايعة الشيوخ والطرقيين على أساس أن يسلكوا بالمريدين مسالك لم يسلكها هو بأصحابه وهم من أوفى تلامذته بالعهد الذي يربط بينهم وبينه؟ ومجرد مخالفته صلى الله عليه وسلم في كيفية من كيفيات تعبده، أوَلا تعتبر خروجا عن طاعة الله ورسوله؟ أولا تجعل هذه المخالفة ممن يدعون أنهم على سنته مجرد كذابين أفاكين؟ والادعاء بأن السنة هي المنهاج كذبه ويكذبه واقع الطرقيين في كل زمان وفي كل مكان! سميناهم بودشيشيين الذين نجهل اسم مؤسس طريقتهم على وجه التحديد (راجع كتابنا المذكور قبله)، أو سميناهم كتانيين؟ أو سميناهم درقاويين؟ أو سميناهم تجانيين؟ مما يدل دلالة قاطعة على أننا أمام مفترين على الله وعلى الرسول! خاصة عند من يزعمون أن الله ما عبد في الحقيقة إلا على لسان المتصوفين، كما أكد لنا الغزالي في مؤلفه السيء الذي أفسد دين جماعات من المغاربة منذ أواخر عصر المرابطين حتى الآن (راجع: التشوف إلى رجال التصوف، لابن الزيات). نقصد «إحياء علوم الدين» الذي قال البعض بخصوصه يخاطب صاحبه: «إحياء علوم دينه»! فصح أن القاضي عياض على حق حينما كفّر الغزالي في كتابه القيم «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» وهو كتاب سوف أقوم لاحقا -إن شاء الله- بوضعه في مساره التاريخي والديني قبل وفاة صاحبه وبعد وفاته بسنوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *