هذه قاعدة شريفة عظيمة القدر، حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس وإلى الروح التي بين جنبيه، مستفادة من كلام شيخ الإسلام وفيها فوائد من كلام تلميذه ابن القيم عليهما الرحمة والرضوان.
فنقول: إن كل عبد، بل وكل مخلوق فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب.
فلابد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود، والمانع لحصول المكروه أو الدافع له بعد وقوعه.
فها هنا أربعة أشياء:
1- أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
2- أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
3- الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
4- الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه أربعة أمور ضرورية للعبد، بل ولكل مخلوق لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا ثبت ذلك فبيان ما ذكرنا من وجوه:
1- الله هو الذي يجب أن يكون المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وعلى دفع المكروه؛ فهو -سبحانه- الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه؛ قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
2- أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته… الخ، وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم، وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وهذا مبني على أصلين:
أ ـ عبادة الله والإيمان به غذاء الإنسان، وقوته وصلاحه وقوامه.
ب ـ كمال النعيم في الدار الآخرة أيضًا به -تعالى- بالنظر إليه سبحانه.
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل الإيمان وأهل السنة والجماعة وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويزيد ذلك ويقرره:
3- إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع… الخ، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه، وأسبغ عليه نعمه، وتحبب إليه مع غناه عنه، وهذا يقتضي التوكل عليه والاستعانة به، ودعاءه وسؤاله دون ما سواه، ويقتضي أيضًا محبته وعبادته؛ لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا عبده وأحبه، وتوكل عليه من هذا الوجه؛ دخل في الوجه الأول.
4- إن تعلقَ العبد بما سوى الله وقع في المضرة وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقرار أن كل من أحب شيئًا دون الله لغير الله؛ فإن مضرته أكثر من منفعته، وعذابه به أعظم من نعيمه؛ فصارت المخلوقات وبالا عليه، وإلا ما كان لله وفي الله فإنه كمال وجمال للعبد.
5- اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته؛ فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء.
6- إن الله غني عن عبادة عباده؛ فالرب -سبحانه- يريدك لك ولمنفعتك بك لا لينتفع بك، وذلك منفعته عليك بلا مضرة، بل رحمة وإحسانًا وجودًا محضًا؛ فإنه رحيم لذاته، محسن لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته… الخ. وهذا بخلاف الخلق كلهم، فتأمل وبالعلم تجمل.
7- إن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك؛ فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها؛ فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجاتهم، فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم، ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم، ولم يخفهم في الله.. وهكذا
8- إذا أصابتك مضرة فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ومشيئته وقدره، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك؛ فالله هو الذي يأتي بالحسنات، ولا يذهب بالسيئات إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
9- الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، وكذلك لو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك؛ فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله؛ فلا تعلق بهم رجاءك..
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “والمقصود أن إله العبد الذي لابد له منه في كل حالة، وكل دقيقة، وكل طرفة عين فهو الإله الحق الذي كل ما سواه باطل، الذي أينما كان فهو معه، وضرورته وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة، ولا حاجة، بل هي فوق كل ضرورة، وأعظم من كل حاجة، ولهذا قال إمام الحنفاء: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}” طريق الهجرتين.
وقال أيضًا: “وجماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي؛ فغيرك أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها، والله -سبحانه- هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة، ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك، ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليه، واستغنائه به بحيث إذا أخرجه أثـَّر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل، والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته؛ فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك، وهذا هو الأغلب على الخليقة” نفسه.
فتعاهد قلبك عبد الله واحرص عليه تخليته وتحليته فإن القلب هو القائد الأول وعليه في جميع الأمور المعول.