المستلَبون والعولمة .. فلسفة محاسبة الدولة؛ من إيجابية (التخليق) إلى سلبية “التوظيف” حمّاد القباج

من الصعب أن يعتقد الإنسان أن جناية “الاستلاب” على ضحاياه “المستلَبين” يمكن أن تصل بهم إلى درجة تبنيهم النضال ضد دينهم ووطنيتهم.

لكنه الواقع الذي لا يمكن إنكاره، وهو واقع غريب تنبأ به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، مشيرا إلى أنه ظاهرة مرضية ينبغي للأمة أن تعالج أسبابها:
“لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم”. قلنا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال: “فمن؟” [متفق عليه].
وكيف لا تكون ظاهرة مرضية تلك التي ترى فيها إنسانا يلغي انتماءه، وقيمته الحضارية التي تميز موقعه وتحفظ شخصيته؛ إعجابا بمذهب “غيره”، بل وإمعانا في اتباعه وتقليده إلى حد خدمة مشروعه وقناعاته، وإفشاء ثقافته وعاداته !
ولقد كان الإخبار النبوي معجزا حين ذكر جحر الضب، إشارة إلى العمق الذي يصل إليه الاستلاب؛ فإن جحر الضب عميق ونتن؛ لا يتبع المرءُ مَن دخله إلا إذا كان شديد التعلق به..
وفي رواية: “حتى لو كان منهم من يأتي أمه في قارعة الطريق، لكان منكم من يفعل ذلك”!
كيف يستسيغ عاقل أن يسخر قلمه (الصحفي)، أو نضاله (الحقوقي)، أو منصبه (السياسي)؛ لخدمة عولمة مشروع هيمنة استبدادي، والتمكين لمن يتربص بقيمنا ووحدتنا، ويهددها متذرعا بالديمقراطية وحفظ الحريات وصيانة حقوق الإنسان؟!
..فمن المطالبة بتعديل قانون الإرث؛ خدمة للرؤية الغربية لمبدأ رفع جميع أشكال التمييز ضد المرأة، إلى المطالبة بإلغاء القانون الجنائي الذي يعاقب على ممارسة الشذوذ، والقانون الذي يحرم الخمر على المسلمين؛ خدمة لمبدأ الحرية وفق المنظور الغربي، إلى المطالبة بتعديل قانون الإجهاض والسعي لنشر ثقافة العازل الطبي المناقضة لمفهوم الوقاية، خدمة للمبادئ الإباحية الغربية.
ناهيك عما يحيط بذلك -في المحتوى الإعلامي والمضمون التعليمي وغيرهما-؛ من سعي فكري وتأطير ثقافي لنشر الاستغراب وترسيخ الاستلاب.
إنها ثورة فعلية على ثوابت الأمة الأخلاقية والتشريعية، وإنه انقلاب خطير ضد قيمها، يجعلها في مهب رياح العولمة السياسية والثقافية والاجتماعية؛ عولمة تدّعي تجريم الإرهاب، وهي تمارس أشد أنواعه؛ ألا وهو إرهاب الدولة الذي يسلب الشعوب إرادتها وخصوصياتها بأشد وسائل الترغيب والترهيب.
وليت شعري؛ كيف يسخر العاقل قلمه ونضاله للإشادة بنظام أممي يقر ويكرس “الميجا إمبريالية”، ويتواطؤ بشكل فاضح مع دولة “تسمح لنفسها علانية بخرق القواعد الأساسية للقانون الدولي، والاستهزاء بالقيم الإنسانية الأساسية، وقتل مئات الأشخاص بوحشية، وتدمير البنيات التحتية بهمجية تعرض حياة ملايين الأبرياء للخطر”.
نظام يقر، بل يشجع الظلم والعدوان وسياسة الكيل بمكيالين؛ (لنستحضر موقفه غير العادل في مسألة امتلاك الأسلحة النووية، وفي قضية الشيشان والبوسنة والهرسك، وكيف جنى على أفغانستان والصومال والعراق؛ حيث أطاح بحكومات لا يرتضيها، وأدخل سكانها في دوامة من الصراع والتناحر، وأما القضية الفلسطينية ومجازرها الرهيبة فلا تحتاج إلى توضيح، وفي أحداث غزة عبرة لمن لم يُجْهز الاستلابُ على حياة قلبه)..
كيف يسمح عاقل بالدعوة إلى كونية هذا النظام على حساب كونية قيمه وحضارته القائمة على شريعة عادلة رحيمة؟!
وكيف يسمح لنفسه بمحاسبة الدولة ومحاكمتها عند ذلك النظام، والحال أنها ليست أولى بالمحاسبة منه؟!!
إن فلسفة محاسبة الدولة من طرف الجمعيات والمنظمات الحقوقية العميلة لمبادئ النظام العالمي الجديد؛ فلسفة باطلة، ووجه بطلانها: أن جهة تريد أن تغير قناعات جهة أخرى، والحال أن المغَيّرة أو المغِيرة (كلاهما وصف صحيح)؛ ليست محل اتفاق بل هي منتقدة عند الألوف من المواطنين، فيلزم قيام جهة ثالثة تناضل لتغيير قناعات تلك الجهة المغيرة، وهكذا …
وهذا يُدخل الدولة والشعب في دوامة، تلقي بهما في بؤرة من الاضطراب والصراع الاجتماعي والفكري المعيقين لعجلة الإصلاح والتنمية.
والحق أن الأمر أكبر من كون الجهة المغيرة ليست محل اتفاق؛ بل هي جهة عدوانية استعلائية تؤمن بدونية الشعوب والدول، وتؤسس مشروعها على جريمة الاستعمار الغاشم وجناية العولمة الماسخة.
وقد وضعت الأمم المهيمنة ميثاق “سان فرانسيسكو” عام (1945) على حين ضعف وذهول من شعوب العالم الإسلامي، التي كانت تقاوم أنياب الاستعمار ومخالب الجهل والتخلف.
.. ألم ير المستلبون مواقف وتصريحات “بوش” العنجهية ذات النبرة الاستعلائية؟
ألم يسمعوا قول رئيس الحكومة الإيطالي “سلفيو برلسكوني” في أكتوبر 2001: “بحكم تقدمه الكبير فإن الغرب مؤهل لتغريب وغزو شعوب جديدة”؟
ألم يسمعوا قبل ذلك وصف وزيرة الخارجية الأمريكية لدولتها بأنها “الأمة الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها”، وقولها: “إننا في درجة عالية، وبالتالي؛ فإننا نرى أبعد مما تراه الأمم الأخرى”.
إن الدولة مهما بلغ حجم أخطائها فالسعي الشرعي لتصحيح تلك الأخطاء هو المتعين، وليس السعي لتكريس هيمنة طرف أجنبي هو أشد علينا -بنظرته الاستعلائية وانتمائه التاريخي وقناعاته الفكرية ومَكْره المتواصل-، من شدة أخطاء الدولة.
إنني لا أنتقد أصل محاسبة الدولة، ولا أزعم أنها فوق مستوى الحساب، وأنه لا تنبغي مطالبتها بتصحيح أخطائها وإيصال الحقوق إلى أصحابها، ولكن أنتقد أن يكون ذلك بطرق غير شرعية، لا سيما إذا كانت تلك الطرق تشكل في عمقها خدمة لمشروع الهيمنة الإمبريالي وعولمة الفكر المتسلط، وتقوم على أساس الضغط على الدولة وتمريغ هيبتها في أوحال الخضوع والخنوع.
وقد رأينا قضايا كبرى وجوهرية اتبع فيها المستلبون هذا المسلك؛ من أبرزها قضية المرأة التي استغلوا فيها مؤتمرات الأمم المتحدة لفرض العولمة الاجتماعية الغربية.
وهاهم يطرقون باب الوحدة الوطنية، والدستورية الملكية، بل والانتماء إلى الإسلام الذي لا يرون فيه أكثر من حقيقة تاريخية متجاوزة.
ولعل القارئ المتابع للأحداث يستحضر تدخل الخارجية الفرنسية في قضية مجلة نيشان، واستنكار السفير الأمريكي -الأسبوع الماضي- لطرد المنصرين الذين استغلوا فاقة بعض المغاربة لتبديل دينهم..إلـخ. ومثل هذا التدخل السافر يذكرنا بالتدخلات الفرنسية والإسبانية التي مهدت لفرض الحماية الغاشمة سنة 1912.
..إن استعداء “جبابرة الهيمنة” على الدولة موقف سلبي ضار، وعلى من يشتري الشهرة والمال بذلك الموقف من حقوقيين وسياسيين وصحفيين؛ أن يراجع موقفه ويسأل نفسه:
أين هو احترام حقوق الإنسان عند أولئك الذين يحاسبوننا عليه؟
أين هي المساواة عند من يميزون بين (إسرائيل) والعرب؛ فيرفعون الأولى إلى القمة وينزلون بالآخرين إلى الحضيض؟
أين هي المساواة عند من يكيلون بمكيالين؟ (نسجل هنا أن “هيومن رايتس ووتش”، وجمعيات حقوقية مغربية، غارت على حقوق شرذمة من الشواذ ودعاة الانشقاق، ولم تحرك ساكنا لإنصاف آلاف المواطنين الرافضين لقرار إغلاق دور القرآن).
أين هي الحرية عند من يصادرون حرية شعوب بأكملها، ويسعون لتحطيم عناصر استقرارها؟؟
لقد أخطأ من ظن يوما أن التمكين للعولمة الغربية كفيل بأن يحقق المساواة إلا تلك التي تقوم على أساس التبعية والخضوع، أو يحقق الحرية إلا بالشكل الذي يؤدي إلى تدمير الدين والأخلاق والقيم، أو يحقق الديمقراطية إلا على النحو الذي يرجح أصوات السفهاء على صوت الشرفاء…
وأي ديمقراطية هذه التي تئد اختيار شعوب أرادت التحاكم إلى دينها وشريعة ربها؟ وأي ديمقراطية هذه التي تذيق أهل غزة عذابا شديدا لأنهم اختاروا حكومة لا يرضى عنها الغرب؟؟
وأين هي العدالة الدولية حين تؤَمّن الدول العظمى عددا من مرتكبي جرائم البوسنة بشهادة كارلا ديل بونت (carla del ponte)؛ -النائب العام في محكمة العدل الدولية، وتؤمّن مرتكبي جرائم غزة على مرأى ومسمع من العالم، وتدعم -سرا أو علانية- كل حركة انشقاقية ترسخ الفرقة والتشرذم في واقع الأمة (دارفور في السودان، الصحراء في المغرب، الحوثيون في اليمن، ما يسمى “شباب المجاهدين” في الصومال ..) إلـخ.
ومع ذلك {تَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [سورة المائدة/الآية 52].
إنهم المستلبون ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *