كانت مسألة النبوة ولا تزال من أكثر وأهم قضايا الفكر الإنساني، فهي بعد “وجود الخالق” إحدى أصول المعتقدات الكبرى، وقد اختلف الناس فيها قديما وحديثا، وتميزت فيها طوائف وملل بأقوال ومعتقدات، وتعد مسألة حيوية في التصنيفات العامة للفرق داخل وخارج الإسلام، وبعيدا عن كل هذا، إذ له محله وموضعه، وفي كتاب الله تعالى، حيث متعة القراءة، ولذة العبادة معا، حيث أصول الحق، وعيون البصيرة، حيث يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام عائدا إلى مصر مع أهله فيقول جل وعلا: “وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا، لعلي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النار هدى، فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية أكاد أخفيها، لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى، وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى، قال خذها ولا تخف، سنعيدها سيرتها الأولى، واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى، لنريك من آياتنا الكبرى، اذهب إلى فرعون إنه طغى”.
لنحاول إعادة تصوير المشاهد كلها واستنباط تفاصيلها التي لم يصرح بها، ثم لنقف عند مواضع مثيرة في هذه الآيات المبينة، ولنستخرج مقاصد الخطاب الرباني فيها، فأقول والله المعين:
كانت هذه الآيات خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم تثبيتا ومواساة، وتقوية للعزم وتمكينا لليقين في قلبه، وبدأت بتشويقة لطيفة “هل أتاك حديث موسى”، ثم تبدأ قصة موسى عليه السلام وهو مع أهله، زوجته، وربما ولد له أو أكثر، في ليلة حالكة باردة، ومعه غنيمات له، خارجا من “مدين”، من أرض صهره الرجل الصالح، بعد أن “قضى أجله”، فيلاحظ نارا بعيدة، بل نورا، فيوقف القافلة الصغيرة: “امكثوا”، فلعلني أرجع منها بشعلة نوقذ بها نارا لنا، نستدفئ بها، و”لعلكم تصطلون”، ولعلني أجد على النار قوما يدلوننا على الطريق المسلوك إلى مصر، “هدى”، نطقها لفظا، وخالفته معنى… فقد كان ثمَّ دلالة على “هدى” أعظم…!
تطيعه زوجته، ربما تلك “التي جاءته تمشي على استحياء”، وعندما يصل موسى إلى مصدر النار، أو النور ، يخاطبه الله تعالى بكلام مسموع لا يعرف مصدره، لكنه كلام ليس ككلام الناس، بل ككلام سمعه آدم حينما خوطب في الجنة بالأمر والنهي والإخبار، وفي حالة دهشة ربما، يخبره الله بأنه “اختاره” و”اصطفاه” “للنبوة”، ثم “للرسالة”، ويأمره بالاستماع إلى “الوحي”، خاصة الأنبياء، فيأمره الله أن يُلقي “عصاه” التي اختارها هو بنفسه، وأعدها بطريقته، ولزمته مدة، وهو أعرف بها من غيره، وكان له فيها مآرب أخرى، إلا واحدا، ما كان يعرفه، فيجعلها الله حية تسعى من لحم وعظم، فيصيبه خوف منها، فيرده الله إلى حالة المتابعة، فيردها إلى أصلها، ثم يأمره أن يضم ويسلك “يده” إلى “جناحه” و”جيبه”، فتخرج بيضاء على غير عادتها، من غير سوء ولا مرض ولا أذى، كل هذا من آيات “نبوته” وبراهين “بعثته”، من آياته الكبرى التي لا تكون إلا للأنبياء، لا تعطى لولي صالح ولا إمام عادل، فحسبهم كرامات تقرب من قدر آيات الله الصغرى في الأنبياء، وهنا يتمكن اليقين من قلب موسى، وهو في أرض منقطعة، لا أثر فيها لسبب معقول لما يجري إلا أن يكون ذلك من الرب الخالق، ولذلك لم يتأخر الأمر بالنزول إلى فرعون، جاعلا إياه من “المرسلين”، وتبليغ رسالة الله لأهل مصر وبني إسرائيل،”اذهب إلى فرعون إنه طغى”.
جمعت قصة نبوة موسى ورسالته عناصرها كلها، فقد “اختاره الله” للنبوة، فليس سبيلها كثرة عبادة ولا طول تأمل كما يزعم الفلاسفة وصوفية الملل والنحل في العالم، وليست حالا نفسية كما يزعم مجانين الحداثة وجهلة بني علمان، تبعا لمردة المستشرقين قبلهم، ثم “أوحى” له، فخاطبه بلا واسطة ملك، بل أسمعه كلامه جل وعلا، ونفوض كيفية حصول ذلك إلى علم الله وقدرته، ثم بادرته “الآيات الكبرى”، فكان جعل الله “الخشب” “لحما”، ثم إعادته “خشبا”، والعصا عصاه لا عصا غيره، دليلا على أن المتكلم معه هو رب العالمين المستحق وحده للعبادة والطاعة، ومعه جعل يده بيضاء على غير عادتها، من دون سوء فيها ولا سوء في عينه وعقله، فقد كان موسى حينها في أكمل حالاته، وكان عقله في أرقى مراتبه “إذ كان يوحى إليه”، وكل ذلك لا يدع محلا لذرة شك فيما يحصل له، فيسلم موسى نفسه للخطاب وصاحبه، ويهنأ بالوحي وما إليه، وقد كان الله “صنعه على عينه”، وقدر أن يكون رسوله إلى بني إسرائيل في أصعب مراحل حياة أمتهم، ليستخلصهم من استعباد فرعون لهم، ويستخلصهم من حالة الضعف والكمون إلى رحلة طويلة، ثم قيام دولتهم بعد ذلك مع داود وسليمان.
هكذا الأنبياء والمرسلون، هذه حالهم، وهذه قصتهم، قصة “وحي” و”آيات” و”رسالة” لإصلاح العلم والعمل، في أمم العالم، والحمد لله رب العالمين.