أسباب تقبّل شعوب الأمّةِ الإسلاميّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة* يتبع

كان من المفروض أن تبقى شعوب الأمة الإسلامية منيعة محصنة، لا تسمح بتسلل ضلالات المذاهب الفكرية المعاصرة إليها.

وذلك لأن الإسلام الذي تدين به هذه الشعوب، هو الدين الرباني الحق الذي لم يدخله تحريف ولا تبديل، وهو الدين الذي يهيمن على العقول والأفكار بسلطان الحق وبراهينه، ويهيمن على النفوس والقلوب بكماله وملاءمته للفطرة الإنسانية، وتلبيته لكل حاجات الناس أفراداً وجماعات، وبأن لديه الحل الأمثل لكل مشكلات الحياة، وبأنه يشتمل على أسس الحق والعدل والفضيلة، وبأنه جاء بالنظم المشتملة على أحسن صورة ممكنة بالنسبة إلى الواقع البشري، كفيلة بأن توفر للناس الأمن والطمأنينة والاستقرار والرفاهية والتقدم العلمي والحضاري، وفيها ما يضبط جنوح الأفراد ويقيم العدل، ويكفل ذوي الضرورات والحاجات، ويكبح جماح ذوي النوازع الطاغية، والأهواء الباغية.
ولكن وُجدت عدة أسباب، هيأت مناخاً مناسباً لتقبُّل كثير من أفراد هذه الشعوب لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة، مع ما فيها من زيغ وباطل وضلال كثير.
وباستطاعة الباحث في الواقع والظروف التاريخية التي مهدت له، أن يكتشف جملةً من الأسباب، منها وأهمها الأسباب التاليات:
* * *
السبب الأول:
إن معظم المسلمين حكاماً ومحكومين، هجروا إسلامهم، وتهاونوا في تطبيق أحكامه، وأخلدوا إلى الدعة والراحة، وتعلقوا بالدنيا وشهواتها، وتنازعوا عليها، وتفرقوا إلى فرق وأحزاب ودول متصارعة متخالفة.
وكان هذا من أخطر وأهم الأسباب التي أطمعت الأعداء فيهم، فوجهوا لهم جيوش القتال للسيطرة عليهم، وإسقاط سلطانهم، وتحطيم قواهم، وسلب ما يملكون من أرض ومالٍ وطاقات بشرية، وتسخيرهم في الأعمال كالعبيد، ووجهوا لهم جيوش الفتنة والإفساد لسلبهم ذاتيتهم العظيمة القائمة على الإسلام إيماناً وخلقاً وعملاً.
* * *
السبب الثاني:
تفشي الجهل بين معظم المسلمين في جميع أقطارهم وبلدانهم، وبُعْدُهُم عن العلم بصفة عامة في القرون المتأخرة، قرون الانحطاط، بعد القرون العلمية الذهبية التي احتل المسلمون فيها قمة الحضارة، وكانوا فيها قادة الركب الإنساني إلى كل تقدم صحيح فكريٍّ وتطبيقي.
وتفشي الجهل بين معظم المسلمين قد كان في الحقيقة نتيجة طبيعيةً للسبب الأول بالنسبة إليهم، إذْ صرفهم عن العلم وعن الاشتغال به هجرُهم للإسلام، وبُعدُهم عن تطبيق أحكامه، وعن الاهتداء بهديه، نتيجة تعلقهم بمتاع الحياة الدنيا، والتنازع عليها، والتقاتل من أجلها، والتسابق إلى الظفر بالسلطان والجاه، والرغبة بجمع المال، والسعي وراء الاستمتاع بلذات الجسد، من مآكل ومشارب ومناكح ومساكن، وسائر ما في الحياة الدنيا من زينة.
مع أن الإسلام يدفع المسلمين بإلزام، إلى الأخذ بأسباب العلم والبحث العلمي، والتسابق فيه، وأخذ النصيب الأوفى منه، في كل مجال من مجالاته النافعة، فالعلم سبب من أسباب القوة التي أمر الله بإعدادها جُهدَ الطاقة والاستطاعة، وهو النور الذي يهدي إلى سُبُل السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، ويعرّف الإنسان بربّه، ويُعطيه مفاتيح فهم كتابه المنزّل، والتبصّر بسنّة رسوله المجتبى عليه الصلاة والسلام، والاتعاظ بسنن الله الجزائية، والانتفاع من سننه التكوينية.
إن الكثرة الكاثرة من المسلمين، لما وجهت معظم تعلقاتها النفسية لمتاع الحياة الدنيا، وآثرت كل عاجل، انصرفت تلقائياً عن التعلم والتعليم، والكدح بغية التزود من أنواع المعارف النافعة، وأمسى الإسلام لدى كثير من المسلمين إسلاماً تقليدياً موروثاً، يشبه الجبرية النسبية، لا انتماءً إرادياً اختيارياً قائماً على الاقتناع الناتج عن بصيرة علمية، كما كان يوم ظهور الإسلام.
وطبيعيٌّ أن يكون فشوُّ الجهل بالدين , وبالمعارف الحقة في مختلفة مجالات العلم، مناخاً ملائماً لتسلل الأفكار الباطلة المموهة بزخارف كاذبات، تخدع الناظرين، وتفتن الجاهلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب “كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة” للشيخ الدكتور عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني (ج1/ص: 65-66-67).
تنبيه: تجاوزنا جزءا كبيرا من الكتاب يبين فيه المؤلف كيف تكون الفكر الغربي بعد تنصر الرومان وتبنيهم لعقيدة التحريف، التي تؤمن بأن الله ثلاثة آلهة، ثم بين كيف مارس رجال الدين النصارى قدسيتهم الدينية في استغلال الناس وتعبيدهم، وتكريسهم لنظام الإقطاعية والاستغلال، ومحاربتهم للعلم، مما جعل الفلاسفة الغربيين يتنكرون لهذا الاستغلال الديني، وهو ما تولد عنه كفران بالتدين عموما مقابل ترسيخ الفكر المادي العلماني والذي توّج بالثورة الفرنسية سنة 1789، بعدها عمل الغرب على تصدير فكره لبلاد الإسلام…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *